في العصر الجاهلي على أرض العراق عاشت قبيلة إياد بعد هجرتهم من تهامة وسط نجد، واختلفت الروايات التاريخية حول تاريخها، وخلاصتها أنها كانت قبيلة متمردة كثيرة الإغارة، وكانت بينها وبين الدولة الفارسية مناوشات، منها إغارة إياد على قافلة فيها امرأة فارسية زُفَّت لزوجها، فشنُع ذلك جدًّا على الفرس وجهَّزوا جيشًا لقتالهم، فهزمتم إياد في موضع سمِّي بدير الجماجم؛ لكثرة ما كان فيه من جماجم الفرس المهزومين، فجهز كسرى جيشًا أكبر قوامه ستون ألف جندي لغزو إياد.
وقبيلة إياد عُرفت بكثرة شعرائها وخطبائها وكُتَّابها، وقد عمل من أبنائها في ديوان الإنشاء في الدولة الفارسية لقيط بن يعمَر الإيادي، ولما علم بنية الفرس غزوهم، ضحى بمكانته في ديوان كسرى، وحذَّرهم في قطعة شعرية دالية من أربعة أبيات، هي:
سَلَامٌ في الصَّحيفةِ مِنْ لَقِيْطٍ إِلَى مَن بِالجَزيرةِ مِن إِيَادِ
بِأَنَّ اللَّيثَ كِسْرَى قَدْ أَتَاكُمْ فَلَا يَشْغَلْكُمُ سُوْقُ النّقادِ
أَتَاكُمْ مِنْهُمُ سِتُّوْنَ أَلْفًا يَزُجُّوْنَ الكَتَائِبَ كَالجَرَادِ
عَلَى حَنَقٍ أَتَيْنَاكُمْ فَهَذَا أَوَانُ هَلاكِكُمْ كَهَلَاكِ عَادِ
ثم في قصيدة طويلة عينية زادت عن ستين بيتًا، ولم يصلنا من شعره غيرهما، وتدور الأفكار الرئيسة في العينية حول مقدمة طللية كعادة القصيدة الجاهلية، والتخويف من غزو كسرى وجيشه، وطريقة استعدادهم للحرب، وتقريع قبيلة إياد لانشغالهم بالدنيا وعدم استعدادهم للحرب، ويخط لهم سبيل الاستعداد، وصفات القائد الذي يجب أن يجتمعوا حوله، وبدأها بقوله:
يا دارَ عَمرَةَ مِن مُحتَلِّها الجَرَعا هاجَتْ لِيَ الهَمَّ وَالأَحزانَ وَالوَجَعَا
ومن أبياتها:
أَبلِغْ إِيادًا وَخَلِّلْ في سَراتِهم أَنّي أَرى الرَّأَيَ إِن لَم أُعصَ قَد نَصَعَا
يا لَهفَ نَفسِيَ أَن كانَت أُمورُكُمُ شَتّى وَأُحكِمَ أَمرُ النَّاسِ فَاجتَمَعا
أَلا تَخافونَ قَومًا لَا أَبَا لَكُمُ أَمسَوا إِلَيكُم كَأَمثالِ الدّبا سُرُعا
وفي صفة القائد الذي يجب أن يلتفوا حوله قال:
فَقَلِّدوا أَمرَكُمُ لِلَّهِ دَرُّكُمُ رَحبَ الذِّراعِ بِأَمرِ الحَربِ مُضطَلِعا
لا مُشرِفاً إِن رَخاءُ العَيشِ ساعَدَهُ وَلا إِذا عَضَّ مَكروهٌ بِهِ خَشَعا
وَلَيسَ يَشغَلُهُ مالٌ يُثَمِّرُهُ عَنكُم وَلا وَلَدٌ يَبغي لَهُ الرَّفَعا
يَسعى وَيَحسِبُ أَنَّ المالَ مُخلِدُهُ إِذا استَفادَ طَريفاً زادَهُ طَمَعا
مُسَهَّدَ النَومِ تَعنيهِ ثُغورُكُمُ يَرومُ مِنها إِلى الأَعداءِ مُطَّلَعا
ما انفَكَّ يَحلُبُ دَرَّ الدَّهرِ أَشطُرَهُ يَكونُ مُتَّبِعاً طَوراً ومُتَّبَعا
حَتّى استَمَرَّت عَلى شَزرٍ مَريرَتُهُ مُستَحكِمَ السِّنِّ لا قَحْماً وَلا ضَرَعا
كَمالِكِ بنِ قَنانٍ أَو كَصاحِبِهِ زَيدِ القَنا يَومَ لاقى الحارِثَينِ مَعا
إِذ عابَهُ عائِبٌ يَوماً فَقالَ لَهُ دَمِّث لِجَنبِكَ قَبلَ اللَيلِ مُضطَجَعا
فَساوَروهُ فَأَلفَوهُ أَخا عَلَلٍ في الحَربِ يَحتَبِلُ الرِّئبالَ وَالسَّبُعا
عَبلَ الذِراعِ أَبِيّاً ذا مُزابَنَةٍ في الحَربِ لا عاجِزاً نِكساً وَلا وَرَعا
مُستَنجِداً يَتَحَدّى الناسَ كُلَّهُمُ لَو قارَعَ الناسَ عَن أَحسابِهِم قَرَعا
لا يَطعَمُ النَومَ إِلّا رَيثَ يَبعَثُهُ هَمٌّ يَكادُ سَناهُ يَقصِمُ الضِّلَعا
وختمها بقوله:
هَذا كِتابي إِلَيكُم وَالنَّذيرُ لَكُم فَمَن رَأى رَأيَهُ مِنكُم وَمَن سَمِعا
وقيل إن لقيطًا لم يكتفِ بإنذار قومه، بل عندما استعان به كسرى دليلًا لمعرفة الطريق لقبيلة إياد توَّه جيشه في صحراء الإهالة حتى مات كثير من جنده عطشًا، وذهب الناجون منهم للحرب منهكين، ولما علم كسرى بخيانته قطع لسانه ثم قتله، واختلفت الروايات حول نتيجة هذه الحرب فقيل انتصرت إياد ولكنها انقسمت على نفسها بعد ذلك وتفرق أهلها، وقيل هزمت وذهبت ريحها.
ولكن رغم موت لقيط لم تمت قصة تضحيته، ورغم التواضع الفني لقصيدته خلّدها صدقها، وحظيت باهتمام الرواة، والشُّرَّاح، والنُّسَّاخ، واللغويين والأدباء، والمغنين، والمحققين، والنقاد قديمًا وحديثًا، وتناولتها البحوث العلمية بالدرس والتحليل بمناهج نقدية عدة منها الأسلوبي والبلاغي والعروضي والتداولي والثقافي والحِجاجي والتماسك النصي وأفعال الكلام والتنغيم وغيرها.
فلله درُّها من قصيدة، ولله دره من مضحٍّ!
د. محمد علي عطا
د. محمد علي عطا