
رغم التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر، تظل الثروة البشرية واحدة من أهم عناصر القوة الكامنة التي يمكن أن تتحول إلى رافعة حقيقية للتنمية، إذا ما أُحسن استثمارها.
وفي سياق ذلك، تتجه الأنظار إلى الإحصاءات السكانية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والتي تكشف عن ملامح التحول الديموغرافي في البلاد.
انخفاض نسبي في الزيادة السكانية… هل بدأ التحول؟
في تصريحات حديثة، أعلن اللواء خيرت بركات، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن عدد سكان مصر بالداخل سيصل إلى 108 مليون نسمة يوم الاثنين 18 أغسطس 2025.
اللافت في هذا التصريح أن الوصول إلى المليون الثامن بعد المائة استغرق 289 يومًا، مقارنة بـ268 يومًا فقط في المرة السابقة، ما يشير إلى تباطؤ نسبي في معدل الزيادة السكانية لأول مرة منذ سنوات.
ووفقًا للأرقام الرسمية، فقد سجلت مصر مليون و998 ألف مولود خلال عام 2024، مقابل 2 مليون و45 ألفًا في عام 2023، بتراجع بلغ 77 ألف مولود، أي ما يعادل 3.8% انخفاضًا سنويًا. ومع ذلك، لا تزال الدولة تسجل مولودًا كل 15 ثانية، وهو رقم كبير بالنظر إلى محدودية الموارد وضغط الخدمات الأساسية.
تُظهر هذه المؤشرات بداية تحوّل إيجابي، لكنه يظل غير كافٍ ما لم يصاحبه تحول نوعي في جودة الخدمات والسياسات السكانية.

صعيد مصر.. الكثافة السكانية الأعلى والتحدي الأكبر
رغم التراجع العام في معدل المواليد، فإن محافظات الوجه القبلي (أسيوط، سوهاج، قنا، المنيا، بني سويف) لا تزال تسجل أعلى معدلات الخصوبة في مصر.
ويمثل هذا الأمر تحديًا مزدوجًا: إذ تتركز أعلى معدلات الإنجاب في المناطق الأقل نموًا من حيث مؤشرات التعليم، والصحة، والبنية التحتية، وهنا تتضح المفارقة، ففي الوقت الذي تسعى فيه الدولة إلى تقليل النمو السكاني، نجد أن المناطق الأكثر فقرًا تسجل أعلى نسب المواليد.
هذه التركيبة السكانية تفرض ضرورة توجيه برامج التنمية والتوعية والخدمات الصحية إلى هذه المناطق بشكل خاص، إذا ما أُريد للثروة البشرية أن تتحول من عبء إلى فرصة، حيث أن مواجهة الكثافة السكانية في صعيد مصر لا تكون فقط عبر الحملات الإعلامية، بل من خلال سياسات تمكين المرأة، وتحسين جودة التعليم، وربط الإنجاب بالخدمات الصحية والاقتصادية.
الثروة البشرية ليست في العدد.. بل في جودة الإنسان
لطالما كانت الزيادة السكانية في مصر تُنظر إليها كتهديد مباشر للتنمية، لكن الحقيقة الأعمق أن التحدي الحقيقي لا يكمن في عدد السكان بقدر ما يكمن في نوعية السكان، فالموارد البشرية غير المؤهلة، والتعليم الضعيف، وسوء توزيع السكان، كلها عوامل تُحول الثروة البشرية إلى قنبلة موقوتة بدلًا من كونها طاقة إنتاجية.
ولهذا، فإن الاستثمار في الإنسان تعليمًا، وتدريبًا، وصحة هو الطريق الوحيد لتحويل الكم إلى كيف، وهو ما يضعنا في تحد كبير لإعادة تعريف مفهوم «الثروة البشرية» ليشمل:
- إنتاجية الفرد.
- مهاراته الرقمية والتقنية.
- قابليته للمنافسة في سوق العمل الإقليمي والدولي.

الطريق إلى المستقبل.. من النمو العشوائي إلى التنمية المستدامة
إذا أردنا تحويل الثروة البشرية في مصر من تحدٍ إلى فرصة، فعلينا تبني سياسات شاملة تقوم على:
- الارتقاء بجودة التعليم وربطه باحتياجات سوق العمل.
- تعزيز برامج التمكين الاقتصادي للمرأة، خاصة في الصعيد والمناطق الريفية.
- ربط الدعم الحكومي بمؤشرات الصحة والتعليم والخصوبة.
- إعادة توزيع السكان عبر التوسع في المجتمعات العمرانية الجديدة ومدن الجيل الرابع.
ولعل الفرصة لا تزال قائمة، حيث تمتلك مصر ما يُعرف بـ«النافذة الديموغرافية» إذ تُشكّل الفئة العمرية من 15 إلى 64 عامًا النسبة الأكبر من السكان وإذا ما جرى استغلال هذه الكتلة السكانية عبر التوظيف والتدريب والإنتاج، فإن مصر يمكنها أن تحقق ما يُسمى بـ«العائد الديموغرافي»، كما فعلت دول آسيوية كبرى مثل كوريا الجنوبية وماليزيا.
إن الحديث عن الثروة البشرية في مصر لم يعد ترفًا أكاديميًا، بل أصبح أولوية وطنية تتطلب رؤية شاملة، وتخطيطًا طويل الأجل، وشراكة مجتمعية حقيقية، فبين الأرقام الرسمية، وتحديات المحافظات، وضغط البنية التحتية، تقف مصر أمام مفترق طرق سكاني، إما أن تواصل السير في دوامة الزيادة العشوائية، أو أن تفتح بوابة التنمية عبر الإنسان نفسه، فالسكان، إذا لم يكونوا جزءًا من الحل، فسيظلون هم أصل المشكلة.
فوزي عفيفي
مستشار وزير التموين السابق