
في ركنٍ هادئ من عالمٍ مزدحم، يجلس طفل صغير يحدّق في الأفق بعينين واسعتين كأنهما تريان ما لا نراه، لا يصرخ، لا يركض خلف الكرة، ولا يجيب على الأسئلة التي تنهال عليه بإلحاح.
صوته غائب عن الحوارات اليومية، لكنه يحضر في ابتسامة خجولة، أو نظرةٍ غارقة في عالم خاص اسمه التوحد.
كانت الكلمة ثقيلة، موجعة، تقف في الحلق كغصة لا تنزل: "ابنك يعاني من طيف التوحد".
قالها الطبيب بهدوء، كأنها جملة عادية، لكنها زلزلت أركان قلب أمٍّ كانت تحلم أن تسمع من صغيرها كلمة "ماما"، وأبٍ كان ينتظر لحظة أول نكتةٍ أو سؤالٍ طفوليّ بريء.
ولكن للعلم رأي آخر، ويبدوا أننا كلنا مخطئون في نظرتنا لهذا الأمر، التوحّد ليس مرضًا، بل طريقة مختلفة في رؤية العالم، لغة أخرى لا نُجيدها، ولكن يمكن تعلّمها بالصبر والحب والتفهّم.
هو ليس ظلامًا، بل لوحة فسيفسائية من الألوان، تحتاج فقط إلى من يتأملها بعيون القلب لا العقل.

الإحصائيات العالمية تؤكد أنه يُولد طفل من بين كل 100 طفلٍ تقريبًا ضمن طيف التوحد، بحسب منظمة الصحة العالمية، ولأن كل طفل حالة مستقلة بذاتها، فإن التوحد ليس قيدًا، بل اختلاف في نمط التواصل والتفكير والتفاعل.
بعض الأطفال لا يتكلمون، لكنهم يُبدعون في الرسم، أو الحساب، أو يسمعون الموسيقى بطريقة لا نستطيع إدراكها، آخرون يكرهون الضوضاء، أو يتجنبون التلامس الجسدي، لكنهم يتواصلون بالعاطفة والإحساس.
تقول والدة أحد الأطفال: "في البداية شعرت بالعجز، كنت أبكي كل ليلة، لكنني قررت أن أكون صوت ابني، وأن أعلّمه كيف يعبّر، بطريقته، واكتشفت فيه قدرات لم أكن أتخيّلها، ورأيت في صمته لغةً جديدة من الحنان والفهم فصار عالمي مختلفًا، وصار هو قائدي إليه".
الوعي بالتوحد لا يكفي أن يكون في المراكز الطبية أو المؤتمرات العلمية فقط، بل يجب أن يسكن في المدارس، في الإعلام، في الشارع، في قلوب الناس، فكم من طفلٍ تُرك جانبًا لأنه "غريب"، وكم من أمٍ أُنهكت في محاولة الدفاع عن ابنها من التنمّر أو الجهل أو النظرات المريبة!
التوحد ليس مأساة، بل اختبار للحب الحقيقي، أن تحب شخصًا لا يبادلك الكلمات، لكنك تشعر بامتنان قلبه في كل مرة ينظر إليك أو يحتضنك فجأة بعد صراع طويل مع العالم الخارجي.
في يوم التوعية بمرض التوحد، لا نحتاج فقط إلى شعارات، بل إلى احتضان مختلف، إلى اعتراف أن الاختلاف لا يُنقص من إنسانية أحد، بل يثريها، فهؤلاء الأطفال لا يحتاجون إلى شفقة، بل إلى احترام، إلى مساندة، إلى فرصة.
دعونا نفتح قلوبنا قبل أعيننا، فربما في صمت طفلٍ متوحّد، تكمن حكاية نور تنتظر أن تُروى.
د. سمر أبو الخير
استشاري أمراض التخاطب
رئيس مجلس أمناء مؤسسة سفير لذوي الهمم