
ما إن يُعلن عن وفاة شخصية معروفة من غير المسلمين، حتى يتجدد الجدل، ويظهر من يتصدر المشهد بلغة الإنكار والتشدد، معترضًا على مجرد الترحم، وكأن مفاتيح الجنة والنار بيده، يوزع المغفرة ويمنعها، ويحتكر الحديث باسم الخالق.
المسألة هنا لا تتعلق بفتوى فقهية، بل بسلوك إنساني وأخلاقي يعكس غلظةً وتصلبًا باسم الدين، بينما جوهر الرسالة المحمدية قائم على الرحمة. قال الله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. والعالمين هنا لا تُقصر على المسلمين، بل تشمل كل نفس خلقها الله، وكل إنسان له كرامة إنسانية بصرف النظر عن دينه أو معتقده.
حين ندعو بالرحمة لإنسان غير مسلم، فإننا لا نمنحه صكوك الجنة، بل ندعو الله أن يتولاه بعدله ورحمته، وأن يُعامل سره بما يعلم. من منا يملك اليقين بمصيره؟ ومن تجرأ منّا على الله حتى يحكم بمن يُغفر له ومن لا يُغفر له؟ وقد قال الله لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم. فكيف يتأله الناس اليوم على الله وكأنهم يملكون علم الآخرة؟
الخطورة ليست في الترحم، بل في الادعاء على الله. في الحديث الشريف: قال رجل “والله لا يغفر الله لفلان”، فقال الله: “من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر له؟ قد غفرت له وأحبطت عملك”. فكم من حسنات تُحبط بجرأة على الله، وكم من ظن سيئ يُغلق أبواب الرحمة.
نحن لا ندعو بالرحمة لأننا نتحكم في مصائر العباد، بل لأننا نرجوها جميعًا، ونتمناها لأنفسنا، ونؤمن أن الله أرحم بنا من أنفسنا. فكيف نمنع عن غيرنا ما نرجوه نحن في أشد لحظات ضعفنا؟
وقد بيّن القرآن أن الصالحين من أهل الأديان الأخرى لهم أجرهم عند الله، فقال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
كما أن الإسلام بمعناه العام هو الاستسلام لله وطاعته، وقد قال الحواريون في القرآن: آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. فالمسلم ليس مجرد من حمل اسمًا، بل من خضع لله، واتبع الوحي، وسعى للخير.
أما الترحم على غير المسلم من منظور إنساني وأخلاقي، فلا يتعارض مع الدين. حين مرّت جنازة يهودي أمام النبي صلى الله عليه وسلم، قام لها. فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال: أليست نفسًا؟
هذا هو الإسلام، وهذه هي الرحمة، التي وسعت كل شيء.
النبي الذي أُرسل رحمة، لم يكن يومًا غليظ القلب، ولا متكبرًا على الناس، بل كان يُعلّم أصحابه احترام الإنسان وكرامة النفس، مهما اختلفت العقيدة. فهل يُعقل أن يكون فينا من هو أرحم من النبي، أو أعلم منه بحقائق الدين؟
ما أبشع أن يحكم الإنسان على غيره بالهلاك، ثم يستكثر عليه دعاء بالرحمة! وما أضيق الدين في عقول المتشددين حين يحصرونه في الغلظة والحرمان!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
وفي هذا السياق، نقول: رحم الله الفنان الراحل لطفي لبيب، الذي أحبّه الناس لأخلاقه وإبداعه وتواضعه.
لقد كان نافعًا لمجتمعه، محبوبًا من جمهوره، وترك أثرًا طيبًا في نفوس كثيرة.
ندعو له من باب إنساني لا منازعة فيه، ونترك أمره إلى الله، فهو الأعلم بالسرائر، وهو الأعدل في الحساب.
وفي الختام، دعوا الحكم لله، واسعوا إلى إصلاح أنفسكم، وكونوا دعاة رحمة لا نقمة، فإن الإسلام لم يكن يومًا دينًا للتشدد، بل هو رسالة للرحمة والعدل والإنصاف.
رحم الله من مات طيب السيرة، حسن الخلق، نافعًا للناس، ونسأل الله أن يعاملنا جميعًا برحمته، فإننا فقراء إلى عفوه، عالة على مغفرته، راجون لرضوانه.