
الجرائم الإلكترونية، ذاك الوحش الرقمي الذي خرج من رحم التطور التكنولوجي، بات اليوم واحدًا من أخطر التهديدات التي تواجه الإنسان في عصر الرقمنة.
لم تعد مجرد حوادث عابرة على هامش الواقع، بل أصبحت كابوسًا يوميًا، يتسلل إلى غرف النوم عبر الشاشات، ويطرق أبواب البيوت دون استئذان، ويغرس أنيابه في العواطف قبل الحسابات، وفي الخصوصية قبل البيانات.
خسائر الجرائم الإلكترونية وفي مقدمتها الجرائم العاطفية تتجاوز 2 مليار جنيه سنويًا، وهو أرقام تترجم حجم الفجوة بين التحول الرقمي السريع، واستعداد المجتمع للحماية من مخاطره.
أرقام تنزف من الحسابات البنكية، وأرواح تنكسر تحت سطوة الابتزاز، وصور تتحول إلى أدوات تشهير، وأسرار شخصية تُباع وتشترى في أسواق العري الإلكتروني بلا ضمير.
الأرقام الرسمية ترسم ملامح المأساة، أكثر من 40 ألف بلاغ بجرائم إلكترونية تلقتها الأجهزة الأمنية في مصر عام 2022، مقارنة بـ29 ألفًا في العام السابق، بنسبة زيادة بلغت 36% خلال عام واحد فقط.
ليست هذه مجرد إحصائيات، بل شواهد على معاناة بشرية تتضاعف في صمت، وصرخات مكتومة خلف الشاشات، وجراح نفسية لا ترممها الأيام.

البيانات الصادرة عن الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات تؤكد أن 60% من الجرائم المسجلة تتعلق بالابتزاز والتشهير، وغالبية الضحايا من النساء والفتيات في عمر الزهور، بين 16 و30 عامًا.
هنا وفي هذه المرحلة العمرية على وجه التحديد، حيث تلتقي الثقة الفطرية مع الجهل الرقمي، فتولد الفريسة، ويصطاد المجرم لحظات الضعف ليحوّلها إلى سلاح تهديد وضغط نفسي ومادي، بل وفي بعض الحالات، إلى بوابة لانهيارات أسرية واجتماعية كاملة.
القاهرة الكبرى ومحافظات الوجه البحري تتصدر المشهد، ليس فقط بالكثافة السكانية، بل بكونها مركزًا للنشاط الإلكتروني، حيث يكثر التفاعل عبر التطبيقات والمنصات الرقمية، وتزداد فرص الجريمة في غياب وعي رقمي راسخ، وتشريعات فاعلة، ورقابة أسرية يقظة.
هذا الواقع المفزع لا يتعلق بالمستقبل، بل هو الحاضر بكل تفاصيله، جريمة لا تُشهر سلاحًا، لكنها تقتل المعنويات، وتسرق الأمان، وتشوّه الحياة، وقوة القانون وحدها لا تكفي، فالمعركة ضد الجرائم الإلكترونية تبدأ من الوعي، والتربية الرقمية، والمواكبة التشريعية، والأخلاقية، والتقنية.
الرقمنة ليست خطرًا في ذاتها، بل أداة تتشكل بحسب من يستخدمها، فإن استخدمها الأشرار، صارت وسيلة هدم وتدمير، وإن استثمرها الأخيار، تحولت إلى طريق للتنمية والحضارة.
وهنا، لا بد من أن نختار: إما أن نبقى ضحايا في متاهة الفوضى الرقمية، أو نكون صناع أمن رقمي يحفظ الكرامة، ويحمي المجتمع، ويصون الأجيال القادمة من هذا الطوفان الصامت.
الجرائم الإلكترونية تمزّق الصمت.. من فخاخ العاطفة إلى الانتحار الصامت وقلوب لا تبرأ
خلف كل شاشة حكاية، ووراء كل حكاية فتاة لم تكن تبحث إلا عن كلمة طيبة تُرمم هشاشة الشعور، ففتحت قلبها كما يُفتح كتاب أبيض، وسكبت في العلاقة براءتها وصدقها كما يُسكب الماء على وردة عطشى، لكنها لم تكن تعلم أن من يقرأها ليس عاشقًا، بل صيّادًا يتقن اصطياد البراءة.
تبدأ فصول الجريمة الإكترونية العاطفية بعبارات مغموسة في العاطفة، ونظرات رقمية متوهجة بالاهتمام، ينسج بها الذئب الإلكتروني خيوط الوهم، ويلفّها حول قلب الضحية شيئًا فشيئًا، وحين يطمئن لصدى الثقة، يبدأ في جمع الغنائم: صور، مقاطع، تفاصيل خاصة… كل ما جمعه من نافذة مفتوحة بالصدق، يغلقه الآن بسلاسل التهديد.
- لا يرفع سكينًا، ولا يُشهر مسدسًا، لكنه يطعنها في كرامتها وأمانها وهدوء روحها.
- ليست الدماء من تنزف، بل الكرامة.
- ليس الجسد من يتألم، بل القلب.
- جروح لا تُرى، لكنها تعيش وتكبر وتُطفئ كل ضوء في حياة الضحية.
هكذا، يتحول الحب إلى فخ، والثقة إلى شَرَك، والعلاقة التي وُلدت في الضوء، تنتهي في عتمة الذل والخوف والابتزاز، وفي زوايا غرفتها، تبكي الضحية صامتة، تحاول أن تُخفي ما لا يُخفى، أن تُصلح ما انكسر، أن تستعيد نفسها من بين أنياب لا تعرف الرحمة، ومتاهة لا نهاية لها، وينتهي بها الحال إما بالانكسار والخضوع التام لمطالب الذئب الإلكتروني، أو الخيار الأخر فضية إلكترونية عبارة للقارات، قد تُنهي حياتها .. وهو مصير العديد من الضحايا!
تقرير المجلس القومي للمرأة لعام 2023، كشف عن تلقيه أكثر من 8,000 شكوى من فتيات وسيدات تعرضن للابتزاز والتشهير الإلكتروني، كان أشهرها جريمة فتاة الدقهلية التي أوجعت قلوب المصريين.
فتاة الدقليهة شابة جامعية في ريعان شبابها اختارت الانتحار، بعد أن ضاق بها الخوف، وهدّدها شاب بنشر صورها التي حصل عليها في علاقة إلكترونية سابقة، وعجزت عن معالجة مشكلتها، فققرت إنهاء حياتها وقبل أن تنهي حياتها كتبت رسالتها القصيرة: "ماقدرتش أعيش وأنا حاسة بالخوف والفضيحة... سامحوني أنا مكنتش ببحث عن الحرام ولا عن علاقة آثمة أنا كنت بدور عن الحب الحلال بس طلع كابوس .. سامحوني."
رحلت فتاة المنصورة وبقيت قصتها تنزف في وجدان كل أم، وتهتك بعواطف كل فتاة، وتثير الذعر في كل بيت.
هذه ليست حادثة فردية، بل نداء عاجل لمجتمع يحتاج أن يتعلم كيف يحتوي لا أن يُدين، كيف يحمي لا أن يخذل، وكيف يُربّي أبناءه على أن الكرامة الرقمية لا تقل عن الكرامة الواقعية.

أبعاد اقتصادية خطيرة: الخسائر تتراكم
أما عن الخسائر المادية الناتجة عن الجرائم الإلكترونية فقد تاتت تمثل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد الوطني.
حيث أشارت بعض التقديرات غير الرسمية، إلى أن مصر تخسر ما بين 1.5 إلى 2 مليار جنيه سنويًا نتيجة لجرائم الاحتيال الإلكتروني وسرقة البيانات البنكية.
وهذا الرقم يكشف حقيققته بيان وزارة الداخلية في منتصف 2023، التي أعلنت فيه عن ضبط شبكة للاحتيال الإلكتروني قامت بسرقة بيانات أكثر من 250 بطاقة ائتمانية، وتم استخدامها في عمليات شراء وتحويل أموال بمبالغ وصلت إلى ملايين الجنيهات.
هذه الخسائر تشمل الاحتيال المالي المباشر، والتكاليف التقنية المترتبة على إصلاح الأنظمة المخترقة، بالإضافة إلى الأثر على ثقة المواطنين في المعاملات الإلكترونية.
تحديات المواجهة في ظل ثقافة رقمية ضعيفة
أكبر ثغرة تواجه جهود الدولة في مكافحة الجريمة الإلكترونية هي ضعف الثقافة الرقمية لدى قطاع واسع من المواطنين.
كثيرون لا يميزون بين رابط حقيقي وآخر مزيف، أو لا يدركون خطورة مشاركة البيانات الشخصية على منصات التواصل.
كما أن غياب الوعي القانوني يجعل البعض يتردد في التبليغ، خصوصًا في حالات الابتزاز الجنسي خشية الوصم الاجتماعي.
دراسات ميدانية أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2022 بينت أن أكثر من 47% من المستخدمين في مصر لا يعرفون كيف يؤمّنون حساباتهم على مواقع التواصل، وأن نحو 35% فقط يستخدمون التحقق الثنائي أو تطبيقات الأمان.
ومع تفاقم الظاهرة، بات الأمن السيبراني قضية ذات أولوية وطنية، تتطلب تدخلًا متكاملًا من الجهات التشريعية والأمنية والتعليمية والمجتمعية.
الحل لا يكمن في التشدد القانوني وحده، بل في بناء وعي مجتمعي راسخ، وتضمين مفاهيم الأمن الرقمي في المناهج الدراسية، وإطلاق حملات توعوية واسعة تشمل الريف والحضر، الكبار والصغار، الفتيات والشباب.
إضافة إلى ذلك، فإن استثمار الدولة في البنية التحتية السيبرانية وتطوير قدرات الكوادر الأمنية والفنية، سيسهم في التصدي لجرائم المستقبل، التي قد لا تكون فقط سرقة أموال أو صور، بل تهديدًا للسيادة الرقمية للدولة.
في هذا العصر، حيث تُخاض الحروب بلا دخان، وتُرتكب الجرائم بلا بصمات، يصبح الوعي هو خط الدفاع الأول، وكل فرد بات مسؤولًا عن حماية نفسه، قبل أن يبحث عمن يحميه.