
يعيش العالم اليوم حالة من الاضطراب العميق، لا تقتصر على مظاهر التفكك الجيوسياسي أو التوترات الاقتصادية المتسارعة، بل تمتد إلى البنية الأساسية للنظام الدولي ذاته، الذي يبدو أنه يتجه نحو تحولات جذرية.
فلم يعد السؤال: "هل نحن أمام نظام عالمي جديد؟"، بل أصبح: "ما طبيعة هذا النظام؟ وهل سيولد من رحم التعددية أم وسط فوضى بلا مركز؟".

من الأحادية إلى التعددية: نهاية الهيمنة الأمريكية؟
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تشكل نظام دولي أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، التي فرضت رؤيتها للعولمة والديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الحر.
غير أن هذا النظام بدأ يتصدع تدريجياً مع تعثر المشاريع الأمريكية في العراق وأفغانستان، وتفاقم الأزمات المالية العالمية، وصعود قوى جديدة مثل الصين وروسيا والهند.
اليوم، لم تعد الهيمنة الأمريكية محل إجماع. فبينما لا تزال واشنطن القوة الأعظم من حيث التأثير العسكري والسياسي والاقتصادي، فإن توازن القوى يشهد انحيازات واضحة.
الصين، عبر مشروع "الحزام والطريق"، تحاول إعادة تشكيل شبكات التجارة والنفوذ، فيما تفرض روسيا حضوراً قوياً في بؤر التوتر من أوكرانيا إلى سوريا، بينما تسعى قوى إقليمية أخرى لإثبات وجودها على الساحة الدولية.
الشرق الأوسط: من ساحة صراع إلى فاعل مستقل
التحولات الدولية أفرزت تغيرات ملحوظة في مواقف دول الشرق الأوسط، التي باتت تتبنى سياسات خارجية أكثر استقلالاً، كما برز خلال الحرب الروسية الأوكرانية، حيث اختارت غالبية الدول العربية موقف الحياد الإيجابي، رافضة الانحياز الأعمى للغرب، ومفضلة لغة المصالح والحسابات الوطنية.
هذا التوازن الجديد في المواقف يكشف عن وعي متنامٍ بأهمية دور المنطقة في صياغة ملامح النظام الدولي، لا باعتبارها ساحة للتجاذبات، بل كطرف فاعل يمتلك أوراق ضغط استراتيجية: من الطاقة، إلى الجغرافيا، إلى النفوذ الدبلوماسي.
معالم اضطراب النظام العالمي
لم تكن الحرب في أوكرانيا مجرد صراع إقليمي، بل محطة فارقة كشفت هشاشة النظام الأمني الأوروبي، وعجز المؤسسات الدولية عن ردع النزاعات أو فرض قواعد موحدة. ومنظمة الأمم المتحدة، ومعها منظمات مثل التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي، لم تعد قادرة على التوسط أو فرض حلول.
في المقابل، أخذت التكنولوجيا والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي مكانة متقدمة في أدوات الصراع، بينما تتوسع رقعة التوترات من شرق آسيا إلى القوقاز، ومن أفريقيا إلى شرق المتوسط.
الصين تقدم نموذجاً جديداً للتأثير من دون احتلال أو وصاية سياسية، وروسيا تملأ الفراغ العسكري الذي تركته واشنطن في أكثر من منطقة، خاصة بعد انسحابها الأحادي من العراق وأفغانستان، ما خلق ارتباكاً لدى حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط.

المواقف العربية: بين الشك في التحالفات القديمة وبحث الخيارات الجديدة
العديد من التحولات الأمريكية خلال العقد الأخير، من دعمها لجماعات الإسلام السياسي بعد 2011، إلى الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، ثم رفع جماعة الحوثي من قوائم الإرهاب عام 2021، كل ذلك أضعف الثقة الاستراتيجية في واشنطن كحليف تقليدي.
وفي المقابل، وجد عدد من الدول العربية في بكين وموسكو شركاء أكثر اتزاناً، لا يتدخلان في الشؤون الداخلية، ولا يربطان الشراكة بمعايير سياسية أو أيديولوجية.
الصين تسعى إلى مصالح اقتصادية طويلة المدى، بينما تنخرط روسيا في معادلات أمنية معقدة، تعكس فهماً معمقاً لمصالح الإقليم.
المنطقة العربية والدول النامية: فرص وسط الفوضى
مع تنامي اضطراب النظام الدولي، تجد الدول النامية نفسها أمام تحدٍ خطير: إما أن تكون أدوات في صراع الكبار، أو أن تعيد صياغة موقعها ضمن التحالفات الناشئة، فالضغوط الاقتصادية الناتجة عن تقلبات الطاقة والتضخم وسلاسل الإمداد قد تفاقم هشاشتها، لكن التنويع في الشراكات شرقاً وغرباً يمنحها فرصاً استراتيجية جديدة.
الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه تحدث عن ملامح نظام عالمي جديد بعد الحرب في أوكرانيا، داعياً لأن تكون بلاده من يقوده. وفي المقابل، يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن العالم بات يتخلص من القطب الأوحد، داعياً إلى نظام تعددي. بين الرؤيتين، يتحرك العالم نحو مسارات غير مكتملة، ومفترقات لا تحمل ضمانات.
ما بعد الأطلسي: مشاريع بديلة وتحالفات جديدة
من بين أبرز محاور إعادة الهيكلة الجيوسياسية المقترحة، فكرة "ناتو شرق متوسطي"، ترتيبات أمنية جديدة في الإقليم برعاية أمريكية، تُطرح كحلول لتحديات الأمن الجماعي. لكنها تثير الكثير من الأسئلة حول أهدافها، وحدود الدور العربي فيها، ومصالح الأطراف كافة، وليس الولايات المتحدة فقط.
في هذا السياق، تبرز مصر كقوة إقليمية محورية، قادرة على التأثير في معادلات الاستقرار، وذات وزن استراتيجي يسمح لها بلعب أدوار أكثر توازناً في هذه المرحلة.

نحو نظام عالمي جديد: هل من ملامح واضحة؟
لا شك أن النظام العالمي القديم يتهاوى، لكن بديله لم يُولد بعد. نحن نعيش مرحلة انتقالية متوترة، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى، وتشتبك فيها الجغرافيا مع الاقتصاد والتكنولوجيا.
والسيناريو الأكثر ترجيحاً هو تعددية قطبية غير مستقرة، تتنازع فيها القوى العظمى على مناطق النفوذ، وسط غياب مرجعية قانونية دولية قادرة على الحسم.
الدول التي ستنجو وتنجح في هذا العالم الجديد هي تلك التي تملك رؤية استراتيجية، وتحالفات متنوعة، واقتصادات مرنة، وقدرة على التأقلم مع توازنات متحركة، لا تعرف الثبات.
العرب بين الأزمة والفرصة
التحول العالمي الجاري يمثل فرصة نادرة أمام الدول العربية لإعادة التموضع، بشرط أن تبني سياسات عقلانية، وتحالفات استراتيجية متعددة، لا تقوم على الارتهان لقطب دون آخر.
العالم الجديد لن يُصاغ بإرادة واحدة، ولن يكون امتداداً للنظام القديم، بل سيكون نتاج صراعات وتسويات ومصالح متشابكة.
ما تحتاجه الدول العربية الآن ليس فقط قراءة المشهد، بل الاستعداد للعب دور فاعل فيه، عبر استثمار الجغرافيا، والموارد، والدبلوماسية الذكية، لصياغة موقع متوازن في النظام الدولي القادم.
لواء دكتور: عادل الديب
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة الأسبق