في زحام الطفولة، حيث يُفترض أن تنطلق الأصوات بالضحك والكلام والخيال، قد ينكسر هذا الإيقاع فجأة بسبب اضطراب صوتي يسرق من الطفل أداة تعبيره الأهم: صوته.
اضطرابات الصوت عند الأطفال لا تُعدّ مجرد خلل في الحنجرة أو اهتزاز الأوتار الصوتية، بل هي أزمة تواصل كاملة، تؤثر على نفسية الطفل، وتضعف اندماجه في المدرسة، وتقلّل من قدرته على التفاعل بثقة مع مجتمعه. الصوت ليس رفاهية، بل هو بطاقة هوية سمعية تُعبّر عن الشخصية، والمشاعر، والرغبات. وعندما يعتل، يختلّ كل شيء.

يظهر بعض الأطفال بصوت خشنٍ غليظ لا يتناسب مع أعمارهم، أو ببحة مزمنة تجعلهم وكأنهم في حالة همس دائم، يعجزون عن إيصال كلماتهم بوضوح أو التأثير في من حولهم. البحة ليست مجرد عرض عابر بعد نوبة برد، بل قد تكون إشارة لمشكلة أعمق في الأداء الصوتي تحتاج إلى تدخل تأهيلي متخصص.
الخبراء يُعرّفون البحة بأنها فقدان للصوت لوظيفته التعبيرية. وهو خلل لا يُظهر فقط مشكلات في جودة الصوت بل يخلق فجوة في التفاعل الإنساني، فيرفض الطفل أحيانًا التحدث أمام الآخرين، ويبدأ في الانسحاب تدريجيًا من المشاركة الصفية أو اللعب الجماعي، مما يؤثر على تحصيله وثقته في نفسه.

وتشير الإحصاءات إلى أن ما بين 6% إلى 9% من الأطفال يعانون من أشكال مختلفة من اضطرابات الصوت، خاصة أولئك دون الثامنة عشرة. وقد تكون الأسباب بسيطة مثل الصراخ المفرط أو الاستخدام الخاطئ للصوت، أو أكثر تعقيدًا مثل الإصابة بعقيدات صوتية، وهي تكتلات صغيرة في الطيات الصوتية تُشبه “ندبات التعب”، وتنشأ بفعل الضغط المستمر على الحنجرة.
المشكلة لا تقتصر فقط على النطق، بل تمتد إلى ما هو أعمق. في كثير من الحالات، يخلط الطفل بين مكان إصدار الصوت، أو طريقة النطق، أو لا يستطيع التحكم في اهتزاز الأوتار الصوتية، فيُحوّل الأصوات المجهورة إلى مهموسة، أو يتكلم بصوت مرتجف لا يحمل رسالة واضحة.

ولذلك، يصبح التدخل المبكر ضرورة وليس خيارًا. تبدأ رحلة العلاج من التشخيص الدقيق، باستخدام أدوات متخصصة مثل التقييم السمعي، والتحليل الذاتي، ومنظار الحنجرة، وقياسات فيزيائية للصوت، وهي أدوات تُحدد نوع الاضطراب وأسبابه.
بعدها تبدأ مرحلة التأهيل الصوتي، والتي تشمل تمارين مدروسة لتحسين جودة الصوت، وتقنيات تعديل السلوك، وتدريب الأهل على متابعة البرنامج المنزلي لدعم أطفالهم في استعادة أصواتهم الطبيعية.
الصوت ليس مجرد موجات عابرة، بل نافذة الروح. وكل خلل فيه يستحق أن يُنظر إليه كقضية إنسانية وتعليمية ونفسية في آن واحد. إن دعم الأطفال في مواجهة اضطرابات الصوت لا يحسّن تواصلهم فحسب، بل يعيد لهم حقًا أساسيًا: أن يُسمَعوا كما يجب، ويُعبّروا كما يريدون.
د. سمر أبو الخير
استشاري أمراض التخاطب
رئيس مجلس أمناء مؤسسة سفير لذوي الهمم
المدير الفني لمؤسسة سمعنا صوتك للتخاطب