
حينما تصمت الأصوات، ويغيب الضمير، ويُغمِض العالم عينيه عن جريمة تُرتكب جهارًا نهارًا في غزة الجريحة، يعلو صوت الحق من منبر الأزهر الشريف، قلعة الإسلام ومنارة العدالة، ليوقظ فينا ما بقي من إنسانية، وما تبقى من رجولة، وما ظل نابضًا من ضمائر حيَّة في هذا الزمان الرديء.
بيان شيخ الأزهر الشريف، الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، لم يكن مجرد بيان سياسي أو دبلوماسي، بل كان صرخة ربانية من قلبٍ يتقطع ألمًا، ونداء شرعيًّا قيميًا نابعًا من أصالة الإسلام وعدالة رسالته، يوجهه إلى كل مسلم، بل إلى كل إنسان حُرّ في هذا العالم.
المجاعة والإبادة… وصمة عار في جبين البشرية
ما يجري في غزة اليوم ليس خلافًا سياسيًا، ولا نزاعًا حدوديًا، بل مجزرة معلنة، وإبادة جماعية ترتكب بدمٍ باردٍ ضد المدنيين الأبرياء، أطفالًا وشيوخًا ونساءً، في تحدٍ فجٍّ لكل القيم الإلهية والمواثيق الدولية.
من ينجو من القصف يموت جوعًا، ومن يسلم من القنابل تفتك به الأمراض. ليس هناك دواء، لا ماء، لا غذاء، ولا حتى مأوى آمن، بينما العالم ينظر، ويتفرج، ويتواطأ بالصمت، أو بالدعم العلني للقاتل!
وفي هذا السياق يأتي بيان شيخ الأزهر الشريف ليضع النقاط فوق الحروف، ويُعرِّي المتخاذلين، ويُحذِّر من صمتٍ هو شراكة في الجريمة، ومن تقاعسٍ هو تواطؤ مع الاحتلال، ومن دعمٍ مباشر أو غير مباشر هو مسؤولية أمام الله، قبل أن تكون أمام البشر.
موقف شرعي يُجدد العهد مع قضايا الأمة
إن وصف ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية مكتملة الأركان" ليس توصيفًا عاطفيًا، بل حكم شرعي وقانوني صريح، يضع العالم أمام محكمة التاريخ. وقد صدع الأزهر الشريف بهذا الوصف، شاهرًا سيف الكلمة في وجه الظلم، قائلًاها بملء الفم: "من يمد هذا الكيان بالسلاح أو بالكلمة أو بالموقف، فهو شريك في القتل والدمار، وسيُحاسبه المنتقم الجبار".
هذا هو الخطاب الإسلامي الحقيقي: خطاب لا يعرف المجاملة على حساب دماء الأطفال، ولا يبرر المذابح باسم الواقعية السياسية، ولا يهادن الباطل بدعوى الحياد. بل هو خطاب الإيمان، والصدق، والمروءة.
دعوةٌ للتحرك… لا للاكتفاء بالدعاء
بيان الأزهر لم يكتفِ بالدعوة إلى الدعاء، رغم أن الدعاء سلاح المؤمن، بل طالب بتحرك عاجل، وفتح المعابر، وإدخال المساعدات، وكسر الحصار، وإنقاذ الجرحى، ووقف المجازر، ووقف تصدير الأسلحة والدعم لهذا الكيان المحتل. إنها دعوة لتحرير الضمير، قبل تحرير الأرض، ودعوة لتحرير الإرادة، قبل تحرير الحدود.
فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسعه أن يسكت بعد هذا البيان، بل يجب أن يُجهر بالحق، ويُدين القاتل، ويُناصر المظلوم، ويقف مع الضحية، ولو بكلمة، ولو بموقف، ولو بنية صادقة لا يعلمها إلا الله.
الأزهر لا يمثل نفسه… بل ضمير الأمة
حين يتحدث الأزهر، فهو لا ينطق عن نفسه، بل يعبر عن وجدان أمة، وعن شريعة السماء، وعن ميراث الأنبياء، وعن صوت المستضعفين في الأرض. من هنا، فإن بيان شيخ الأزهر هو وثيقة تاريخية وموقف ديني يُكتب بماء القلب، لا بالحبر، يُخلّد في صحائف من ناصروا المظلومين يوم تخلى عنهم الجميع.
وأخيرًا… لا نعتذر عن عدالة قضية غزة، ولا نبرر دفاعنا عن المظلوم، ولا نخجل من دموعنا، ولا من صرختنا، لأن الإسلام أمرنا أن نقف مع الحق، وعلّمنا أن السكوت على الظلم جريمة، كما يقول الله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾.
وسيعلَم العالم أنَّ الأزهر كان، ولا يزال، منارة الحق حين خَفَتَت الأصوات، ومنبرًا للمستضعفين حين هربت المحافل.
د. أماني الليثي
داعية إسلامية