الصوت ليس مجرد وسيلة للتخاطب، بل يمثل جزءًا أساسيًا من شخصية الإنسان وتواصله الاجتماعي، ويعكس حالته النفسية والجسدية بدقة لافتة.
وعندما يصاب الصوت باضطراب أو خلل، فإن الأمر لا يقتصر على مجرد بُحة أو تغيّر في النبرة، بل قد يكون مؤشّرًا على مشكلات أعمق تتعلق بالنمو اللغوي، والسلوك الاجتماعي، وحتى الصحة النفسية، خاصة في مرحلة الطفولة.

أنواع اضطرابات الصوت: ما بين الخشونة والبُحة
تشير الدراسات العلمية إلى أن اضطرابات الصوت شائعة بين الأطفال بنسبة تتراوح بين 6% و9%، وتتنوع هذه الاضطرابات في شدتها وأسبابها.
من أكثر الأعراض ظهورًا ما يُعرف بالصوت "الخشن" (Harshness)، والذي يتميز بانخفاض النغمة، وارتفاع الشدة، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بتوتر عضلي أو انفعال زائد.
كما تظهر البُحة الصوتية (Hoarseness) في صورة مزيج بين الخشونة والهمس، وتنتج غالبًا عن إجهاد صوتي مزمن أو وجود التهابات متكررة في الحنجرة، أو إصابات عضوية بالحبال الصوتية.
رغم أن بعض الأهل يعتبرون هذه الأعراض عابرة، فإن استمرارها لأكثر من أسبوعين يتطلب تقييمًا متخصصًا، يشمل الفحص السمعي والعضوي والوظيفي للحبال الصوتية، باستخدام أدوات طبية دقيقة مثل المنظار الحنجري أو تقنيات التحليل الصوتي، للوصول إلى التشخيص السليم ووضع خطة علاجية فعالة.

حين يرفض الطفل صوته… خلل في التواصل والثقة
من الحالات اللافتة في العيادات المتخصصة، تلك التي يظهر فيها الطفل رفضًا لاستخدام صوته، أو يُلاحظ عليه الأهل تغيرًا غير مفسر في حدته أو طبيعته.
مثل هذه الأعراض لا يجب تجاهلها، إذ تشير غالبًا إلى اضطراب وظيفي أو عضوي في الصوت، وتنعكس بشكل مباشر على سلوك الطفل، وقدرته على التفاعل، والتحصيل الدراسي، وتكوينه النفسي.
فقد يُصاب الطفل نتيجة هذا الاضطراب بحالة من الانسحاب الاجتماعي، أو فقدان الثقة بالنفس، أو الشعور بالاختلاف السلبي عن أقرانه، مما يجعل التدخل العلاجي ليس مجرد إجراء طبي، بل دعمًا نفسيًا واجتماعيًا متكاملًا.

عُقيدات الأحبال الصوتية: السبب الأكثر شيوعًا
تُعد عُقيدات الأحبال الصوتية (Vocal Nodules) من أبرز أسباب اضطرابات الصوت لدى الأطفال، وهي آفات صغيرة تنشأ نتيجة الاستخدام الخاطئ أو المفرط للصوت، كما هو الحال لدى الأطفال الذين يصرخون كثيرًا أو يستخدمون أصواتهم بشكل مجهد في اللعب أو الحديث.
هذه العقيدات تُغيّر من طبيعة اهتزاز الحبلين الصوتيين، ما يؤدي إلى تغيّر نوعي في الصوت وجودته، وغالبًا ما تكون مصحوبة بأعراض أخرى مثل صعوبة التنفس أو الشعور بالتعب الصوتي السريع.
العلاج في هذه الحالات يعتمد على الدمج بين التدريب الصوتي العلاجي – الذي يقدمه أخصائي التخاطب – والعلاج السلوكي والتعليم الأسري، إضافة إلى تعديل نمط استخدام الصوت.

الارتباط بين اضطرابات الصوت والنطق: منظور علمي متكامل
تشير الدراسات الحديثة إلى وجود ارتباط وثيق بين اضطرابات الصوت واضطرابات النطق لدى الأطفال، حيث يعاني عدد كبير من المصابين من أنماط غير نمطية في الكلام تُعرف باسم "العمليات الفونولوجية الخاطئة" (Phonological Processes)، والتي تشمل:
- الإبدال الأمامي (Fronting): نطق الأصوات الخلفية كأصوات أمامية.
- التحويل الصوتي (Gliding): استبدال بعض الأصوات مثل "ر" بـ "و".
- إزالة الصوت (Devoicing): نطق الحروف المجهورة كأنها مهموسة.
هذه العمليات ليست مجرد "أخطاء لغوية" عابرة، بل انعكاسات على وجود خلل في تمثيل الأصوات داخل الدماغ، وإذا تُركت دون علاج، قد تؤدي إلى ضعف في مهارات التعبير والفهم، وتشوش في الحديث، وتعقيدات نفسية وسلوكية.

نحو استجابة مبكرة وشاملة
إن الكشف المبكر لاضطرابات الصوت لا يُعد ترفًا، بل ضرورة طبية وتعليمية ونفسية. فالتأخر في التشخيص أو تجاهل الأعراض قد يُفاقم من المشكلة، ويترك أثرًا طويل المدى في ثقة الطفل بنفسه وتطوره اللغوي والاجتماعي.
من هنا، تأتي أهمية دور الأسرة في مراقبة التغيرات الصوتية لدى الطفل، وأهمية إحالة الحالة إلى المتخصصين في أمراض التخاطب والنطق، حيث يمكن للتشخيص المبكر والتدخل العلاجي الصحيح أن يُعيد للطفل صوته، بل ويُعيد له القدرة على التعبير، التفاعل، والانخراط في محيطه بثقة وفعالية.
إن الصوت هو نافذتنا إلى العالم، وأحد أبرز مظاهرنا البشرية. واضطرابه لا يجب أبدًا أن يُعامل كأمر عرضي أو مؤقت، بل كجهاز إنذاري لمشكلة قد تكون أعمق.
والمسؤولية تقع على عاتق الجميع: الأسرة، والمجتمع، والمؤسسات الصحية والتعليمية، لبناء وعي حقيقي بأهمية الصحة الصوتية، وتوفير الرعاية اللازمة لأطفالنا؛ ليكبروا بأصواتٍ سليمة… ونفوسٍ أكثر توازنًا.
د. سمر أبو الخير
استشاري أمراض التخاطب
رئيس مجلس أمناء مؤسسة سفير لذوي الهمم
المدير الفني لمؤسسة سمعنا صوتك للتخاطب