
في دهاليز نقابة الصحفيين، وعلى مقاعد الانتظار في المؤسسات الصحفية، وفي المقاهي القريبة من شارع عبد الخالق ثروت، تتكرر المشاهد ذاتها: عشرات الصحفيين بلا عمل، بلا مؤسسة، بلا أمل حقيقي في التعيين. ليسوا عاطلين بالمعنى التقليدي، لكنهم يعيشون مأساة "البطالة المقنعة"، التي تحولت إلى كابوس حقيقي يهدد مستقبل مهنة الصحافة في مصر.
البطالة المقنعة في الصحافة.. واقع مرير يتسع
تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن عدد الصحفيين المتعطلين عن العمل والمقيدين بنقابة الصحفيين يتجاوز 3500 صحفي، غالبيتهم من الشباب تحت سن 45 عامًا. هؤلاء لا يحصلون على رواتب ثابتة، ولا ينتمون إلى مؤسسات صحفية نشطة، بل يعانون من التجميد المهني والإقصاء العملي، رغم حصولهم على عضوية النقابة وخبرات ميدانية معتبرة.
تتزايد الأزمة مع غياب فرص التعيين داخل المؤسسات الصحفية القومية والخاصة، في وقت يشهد فيه سوق الإعلام المصري تغيرات درامية، أبرزها تراجع الطباعة، وتقلص الإعلانات، وتحول الجمهور نحو المنصات الرقمية.
غياب التعيينات.. وجمود الصحف القومية
منذ أكثر من عشر سنوات، توقفت التعيينات داخل المؤسسات الصحفية القومية، والتي يبلغ عدد العاملين بها نحو 30 ألف موظف، وسط أزمة مالية خانقة تعصف بها. بعض هذه المؤسسات تُسجل خسائر سنوية تتجاوز 600 مليون جنيه، في ظل تراجع التوزيع وانكماش الإيرادات، مع غياب خطط التحول الرقمي الحقيقي، مما جعلها عبئًا على الدولة وعلى النقابة معًا.
في الوقت ذاته، توقفت غالبية الصحف الحزبية عن الصدور، وتحولت إلى كيانات ورقية ميتة، بينما تخلّت الصحف الخاصة عن مسؤولياتها الاجتماعية، وامتنعت عن التعيينات الرسمية، مكتفية بنظام "التعاون الحر" أو العمل بدون عقود.
أزمة دور نقابي غائب.. وأرقام لا تُسجّل في المحاضر
رغم حساسية الملف، لم تتحرك النقابة بخطوات فعلية لمعالجة أزمة البطالة المقنعة، إذ لا توجد قاعدة بيانات دقيقة للمتعطلين، ولا خطة تشغيل واضحة، ولا مبادرات إنتاج رقمي تعتمد على توظيف الكفاءات الصحفية. وتُظهر المؤشرات أن ما يقرب من 70% من الصحفيين الشباب لا يحصلون على أي دخل ثابت من مؤسساتهم، ما يُهدد استقرارهم المهني والأسري.
وفي ظل غياب الحوافز، توقفت برامج التدريب والتأهيل الجاد، وتحولت أغلب الدورات النقابية إلى مناسبات شكلية لا تُسهم في إعادة دمج الصحفيين في السوق الإعلامي.
فرص ضائعة في عصر التحول الرقمي
رغم التحولات الرقمية الكبرى التي يشهدها العالم، والتي جعلت من المحتوى الصحفي الرقمي سلعة اقتصادية كبرى، لم تستثمر المؤسسات الصحفية في العنصر البشري. بينما يتجاوز حجم سوق المحتوى الرقمي في العالم العربي 3 مليارات دولار سنويًا، لا يحصل الصحفيون المصريون إلا على الفتات، بسبب غياب مهارات إنتاج الفيديو والتحرير الرقمي، وعدم توافر أدوات إنتاج المحتوى الحديثة داخل المؤسسات المحلية.
كان من الممكن – ولا يزال – أن تتحول النقابة إلى حاضنة للمحتوى المستقل، أو أن تؤسس منصة رقمية لتشغيل الصحفيين المتعطلين، أو أن تنشئ وحدة إنتاج إعلامي تُدر دخلًا للنقابة وتفتح فرص عمل حقيقية، لكنها لم تفعل.
كيف نواجه البطالة المقنعة في الصحافة؟
الحل يبدأ من الاعتراف بوجود أزمة حقيقية، ثم التحرك بخطوات مدروسة، منها:
- إعداد قاعدة بيانات شاملة ودقيقة للصحفيين المتعطلين.
- تأسيس منصة رقمية لتشغيل الصحفيين المستقلين والترويج لأعمالهم.
- تنظيم برامج تدريبية احترافية لإعداد الصحفي الرقمي الشامل.
- تفعيل دور صندوق التكافل الاجتماعي كأداة إنتاج واستثمار.
- الضغط على المؤسسات القومية والخاصة لإعادة فتح باب التعيينات وفق آلية عادلة.
الصحفي لم يعد يطلب امتيازات، بل يبحث عن حقه في العمل والكرامة. أزمة البطالة المقنعة لا تهدد الصحفي وحده، بل تضرب أساس المهنة من جذورها، وتحرم المجتمع من أقلام تُضيء العتمة.
الصحافة لن تموت، لكنها بحاجة إلى من يُنقذها... قبل أن تتحول غرفة الإنعاش إلى شهادة وفاة جماعية.
بسمة إبراهيم