تربية الطفل ليست مهمة عابرة تمارسها الأسرة بشكل غريزي، بل مسؤولية كبرى تتقاطع فيها القيم والدين والمجتمع والمستقبل.
في المنظور الإسلامي، ترتقي تربية الأطفال إلى مقام العبادة، حيث يُعدّ كل طفل أمانة إلهية في أعناق والديه، ومشروعًا إنسانيًا طويل الأمد لصناعة فرد صالح، وعضو فاعل في بناء أمة قوية أخلاقيًا وسلوكيًا.
جعل الإسلام من الرحمة حجر الأساس في تربية الأبناء، واعتبرها مدخلًا لبناء الثقة والطمأنينة في نفس الطفل، حين قبّل النبي محمد صلى الله عليه وسلم حفيده الحسن، قال له أحد الأعراب متعجبًا: "إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ أحدًا منهم"، فكان ردّ النبي حاسمًا وموجعًا في آنٍ واحد: "من لا يَرحم لا يُرحم".
لم يكن هذا الموقف استثناءً، بل كان امتدادًا لرؤية نبوية تؤمن بأن التربية تنبت في التربة الدافئة للحنان، لا في أجواء القسوة والتهديد.
الطفل لا يتعلم من الكلمات وحدها، بل من المشاعر التي تسبق الكلمات، من العيون التي تحتضنه قبل الأوامر، ومن الأفعال التي يراها تنبض في سلوك والديه.
التربية في الإسلام تبدأ من بناء الإيمان في قلب الطفل، ليس عبر تلقين جامد بل من خلال التفاعل الحي مع مظاهر الكون، وتحبيب الطفل في ربه وخالقه، وتعليمه معاني الرحمة والعطاء من خلال القصص والمواقف والسلوك اليومي. فحين يتربى على الصدق لأن والده لا يكذب، وعلى الأمانة لأن أمه لا تخون، وعلى احترام الكبير لأنه يراه جزءًا من حياته، يكون قد تشبع بالقيم لا بالشعارات.
النموذج النبوي في تربية الأطفال
النموذج النبوي قدّم طفولة متكاملة الأبعاد، جمعت بين التعليم والتأديب والمشاعر، رأيناه يحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، يلاعب الحسن والحسين على ظهره وهو ساجد، ويخطب الجمعة فيمسك حفيده بثوبه فينزل النبي إليه دون غضب.
لم يلغِ النبي شخصية الطفل، بل احترمها، وغرس فيها القدرة على التعبير، والجرأة في الطرح، والثقة في الذات، حين جلس ابن عباس إلى جواره، قال له: "يا غلام، إني أعلمك كلمات"، فربّاه على الإيمان والحكمة في الوقت الذي لم يكن قد تجاوز فيه العقد الأول من عمره.
إن غياب هذه التربية المتكاملة يؤدي إلى تشوهات مجتمعية تبدأ في البيت وتمتد إلى المدرسة والشارع، وتنعكس على منظومة القيم بأكملها.
ما نشهده اليوم من انفلات أخلاقي، وتضخم في مظاهر العنف، وانتشار الإدمان الرقمي، ليس سوى نتيجة منطقية لغياب القدوة، وتآكل الوقت الأسري، وترك الطفل نهبًا للشاشات.
بحسب تقرير صادر عن منظمة اليونيسيف عام 2024، فإن أكثر من 85% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و16 عامًا يقضون أكثر من ست ساعات يوميًا أمام الأجهزة الذكية، في غياب شبه كامل للرقابة الأسرية.
بينما تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن طفلًا من كل سبعة أطفال يعاني من اضطرابات نفسية تتفاوت بين القلق والاكتئاب واضطرابات السلوك، وغالبًا ما تعود إلى غياب التوازن بين التربية والقيم، وبين الواقع والأسرة.
تربية الأطفال في الإسلام ليست مجرد وصفة أخلاقية، بل مشروع تنموي طويل الأمد يهدف إلى إعداد جيلٍ قادر على فهم ذاته، واحترام مجتمعه، وخدمة أمته.
لا تبنى الأمم بالصناعة وحدها ولا بالتكنولوجيا، بل تبدأ النهضة من حضن أم تقرأ لطفلها، ومن أب يخصص وقتًا للحوار، ومن أسرة تتعامل مع التربية بوصفها عملًا استراتيجيًا لا ترفًا هامشيًا.
د. أماني الليثي
داعية إسلامية