رائحة الموت في مصر لا تأتي دائمًا من حوادث الطرق أو أروقة المستشفيات، بل كثيرًا ما تتسلل من بين أصابع مواطن يشعل سيجارة.
سيجارة واحدة تبدو بسيطة، لكنها تنتمي إلى طابور قاتل من 206 ملايين سيجارة تُستهلك يوميًا في ربوع هذا الوطن المنهك. نحن لا نتحدث هنا عن مجرد عادة سيئة، بل عن جريمة صحية واقتصادية واجتماعية تُرتكب على مرأى ومسمع من الجميع، ولا منقذ!
لقد أصبحت السجائر والمعسل رفيقًا يوميًا للمصريين، ليس فقط في المقاهي والمكاتب والميادين، بل في البيوت والمستشفيات ووسائل المواصلات.
أرقام مفزعة، كشفتها تقارير رسمية، تؤكد أننا نعيش تحت سطوة "القاتل الصامت"، حيث يستهلك المصريون سنويًا أكثر من 80 مليار سيجارة، و50 ألف طن من المعسل، بقيمة تتجاوز 88 مليار جنيه والغريب أن هذه الأرقام لا تثير الذعر، رغم أن ضحاياها يفوقون ضحايا الحروب.
قد يتصور البعض أن هذا الخطر يهدد المدخنين فقط، لكن الحقيقة أكثر إيلامًا: هناك 26 مليون مصري غير مدخن، معرضون للتدخين السلبي، يعيشون داخل بيوت تخنقها أنفاس مسمومة، ويدفعون ثمن ذنب لم يرتكبوه.
أطفال يتنفسون دخانًا، لا هواءً، نساء يُصبن بأمراض لا يعرفن لها سببًا سوى أنفاس رجل يدخن بجوارهن.

هل ننتظر الموت صامتين؟
وفقًا لتقارير الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، فإن التبغ يقتل أكثر من 8 ملايين شخص سنويًا حول العالم، بينهم 1.2 مليون ضحية من غير المدخنين، ممن يُجبرون على استنشاق الدخان في الأماكن العامة أو داخل بيوتهم.
وفي مصر، لا يختلف المشهد كثيرًا، بل قد يكون أكثر قتامة، في ظل ضعف التشريعات، وتراخي الرقابة، وغياب التوعية الجادة.
المفارقة المؤلمة أن الدولة، التي تحذر من التدخين وتضع العبارات الصارخة على علب السجائر، هي ذاتها التي تجني من هذه الصناعة 92 مليار جنيه سنويًا من الضرائب. وهنا يبرز سؤال محوري: هل يمكن للضمير العام أن يصمت أمام مفارقة أن يموت المواطن من السيجارة، بينما تنجو الخزانة العامة بفضلها؟
إن الفقر ليس في الجيب فقط، بل أيضًا في الوعي. فبينما يكد المواطن العامل من أجل لقمة العيش، ينفق – دون وعي – ما يقارب ثلث راتبه الشهري على السجائر. وتؤكد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن متوسط إنفاق الأسرة المصرية على التدخين بلغ نحو 12.9 ألف جنيه سنويًا، بينما لا يزال ملايين المصريين يفتقرون إلى الخدمات الأساسية من غذاء وعلاج وتعليم.

من ينقذ الأجيال القادمة؟
نحن أمام وباء حقيقي يهدد البنية الصحية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المصري. وإذا لم تتحرك الحكومة بقرارات جريئة وحاسمة، وإذا لم تتحول البلديات والمؤسسات التعليمية ومراكز الشباب إلى قلاع توعية ومقاومة لهذا الإدمان، فإننا نترك الأجيال القادمة على موعد مع سرطان مبكر، وأمراض قلب مزمنة، وبيئة مشبعة بالسموم.
تجارب الدول المحيطة ليست ببعيدة. الأردن، على سبيل المثال، فرض حظرًا صارمًا على التدخين في الأماكن العامة، بعد أن سجل أعلى معدلات التدخين في العالم. فهل نتعلم من تجارب الآخرين قبل فوات الأوان؟ أم نظل نُدخّن ببطء حتى الرمق الأخير، في وطن تختلط فيه أنفاس الحياة بدخان الاحتضار؟
د. حمدي عرفة
أستاذ الإدارة الحكومية والمحلية – خبير البلديات الدولية