انتخابات مجلس الشيوخ موسم تجار الدين ومرتزقة حقوق الإنسان
في مشهد يعيد إنتاج أسوأ ما في التاريخ السياسي والديني المعاصر، تتسابق بعض الجماعات والتيارات الدينية المتشددة في مصر إلى توظيف الدين في انتخابات مجلس الشيوخ الحالية، وكأننا أمام سوق ديني مفتوح تُباع فيه الفتاوى وتُشترى الأصوات بشعارات إيمانية جوفاء.
لا جديد في الفكرة، لكنها تعود إلينا بوجه أكثر جرأة واستهتارًا، في وقت أحوج ما نكون فيه إلى ترسيخ معايير الدولة الوطنية المدنية القائمة على المواطنة والقانون، لا على دغدغة المشاعر الدينية واحتكار الجنة.
تزييف الوعي الديني في انتخابات مجلس الشيوخ
لم تكتف هذه الجماعات – التي تصف نفسها بالشرعية أو النورانية أو الدعوية – بالمشاركة السياسية المشروعة، بل تجاوزت حدود المنافسة إلى استباحة كل ما هو محرم ومرفوض دينيًا وأخلاقيًا. فالدين لم يعد وسيلة للهداية والسمو، بل تحوّل في أدبياتهم إلى سلعة انتخابية؛ يُوظف على منابر المساجد، وتُلوى أعناق النصوص الشرعية لتبرير موقف مرشح دون آخر، وتُساق الفتاوى حسب الطلب السياسي.
إننا أمام تزييف ممنهج للوعي الجمعي باسم الإسلام، وانحراف عن جوهر الدين الذي جاء ليقيم العدل لا ليُستخدم كأداة لاحتكار السلطة.
تديين السياسة أم تسييس الدين؟
الفرق بين “تديين السياسة” و”تسييس الدين” هو الفرق بين الإصلاح والفساد. التديين المشروع للسياسة يعني أن تكون القيم الإسلامية حاضرة في ضمير المسؤول: عدل، شفافية، أمانة، شورى.
أما ما تمارسه هذه الجماعات فهو العكس تمامًا: تسييس فاجر للدين يجعل من الصلاة واللحية والعبارات الدينية صكوكًا انتخابية لا تدل على كفاءة أو أهلية، بل على قدرة فائقة على التضليل باسم الله.
وهنا مكمن الخطر: استخدام المقدس لتكريس الفساد البشري، وترويج أن من يعارضهم كأنما يعارض الله ورسوله.
إن ما يحدث في بعض الدوائر الانتخابية اليوم، وخاصة مع دخول بعض مرشحي التيارات السلفية أو الدينية المتشددة إلى السباق، يدعو إلى القلق العميق. مساجد تُستخدم بشكل غير مباشر في دعم مرشح “ملتزم”، صفحات تروّج أن التصويت لمرشح “الإخوة” أو “الملتزمين” أوجب شرعيًا، حتى أن بعضهم لا يتورع عن وصف المعركة الانتخابية بأنها “نصرة للإسلام” ضد “الليبرالية الكافرة”، في خلط مريب بين الدين والسياسة، يهدف إلى تفخيخ المجتمع لا إصلاحه.
علماء الأمة الحقيقيون، من السلف والخلف، حذروا دائمًا من هذا النوع من المتاجرة بالدين. يقول الإمام الغزالي: “من جعل الدين مطية للسياسة، أفسد الدين وأهلك السياسة”.
ويقول ابن القيم: “من الناس من يدخلون في الدين رياءً، ويخرجون منه خيانةً”. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر من الدعاة على أبواب جهنم الذين يلبسون لباس الدين وهم أبعد ما يكونون عن جوهره.
إن أخطر ما في استغلال الدين انتخابيًا ليس فقط الفساد السياسي الذي ينتج عنه، بل تشويه صورة الإسلام في عيون الناس. فحين يُستخدم الدين في سوق السياسة، يفقد هيبته وتأثيره، ويتحول إلى لافتة تُرفع حين نريد التصعيد وتُسقط حين نريد التحالف مع الفساد.
كما يؤدي ذلك إلى تقسيم الناس وفق انتماءاتهم الإيمانية المزعومة، بدلًا من الانتماء الوطني الجامع. هذا الفعل هو إضعاف للوطن لا خدمته، وهو معول هدم في يد من يدّعي أنه حارس العقيدة.
دعوة إلى الصحوة الوطنية والدينية
إننا في حاجة إلى موقف وطني واضح، وموقف شرعي حاسم، يمنع بشكل قاطع أي استخدام للدين في الحملات الانتخابية. على الدولة أن تراقب استخدام المنابر والمنصات الدعوية في الترويج الانتخابي، وعلى الهيئة الوطنية للانتخابات أن تفرض عقوبات رادعة على من يستخدم الدين لتجييش الأصوات. وعلى المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء، أن يصدعوا بكلمة الحق: لا يجوز شرعًا استغلال الدين في السياسة، ولا يجوز اتخاذ الإسلام وسيلة للصعود إلى البرلمان.
وفي النهاية، لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها، فالدين لا يحتاج إلى جماعات تدافع عنه في الانتخابات، بل يحتاج إلى رجال يطبقونه في الواقع بصدق ونزاهة.
والوطن لا يُبنى بالشعارات الدينية الزائفة، بل بالعمل الجاد والبرامج الحقيقية والكفاءة. فكما أن تسييس الدين خيانة، فإن حماية الدين من التوظيف السياسي واجب وطني وديني لا يقبل التأجيل.