
يثار بين الحين والآخر الجدل حول تقبيل يد بعض العلماء والدعاة، وقد أنكر البعض مؤخرًا تقبيل يد معالي وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري ، وعدّه بدعة أو مذلة لا تليق.
والحق أن معالي الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف عالم جليل قبل أن يكون وزيرًا، وتقبيل يد العالم الجليل، إذا كان من باب التوقير والاحترام، لا من باب التقديس أو التزلف، فهو جائز شرعًا، وقد فعله السلف الصالح دون نكير.
هذا الجدل المتكرر يعكس قصورًا في فهم مقاصد الشريعة وآدابها المتعلقة بتوقير العلماء، كما يُظهر اختلالًا في الموازين بين ما هو مرفوض شرعًا وما هو مستحبّ في باب تعظيم أهل الفضل.
لقد كان توقير العلماء وتقبيل أيديهم وأقدامهم ــ أحيانًا ــ من المظاهر التي درج عليها السلف الصالح، ونقلها أئمة الإسلام من غير إنكار، بل باعتبارها من مكارم الأخلاق وتمام الأدب.

أدلة تقبيل يد العلماء في السنة وأثر الصحابة
لقد ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قبّلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم من باب التوقير والتعظيم لما يحمله من مقام النبوة، ومن ذلك ما رواه أبو داود في "سننه" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "دنونا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده".
وقد قبّل الصحابة أيدي بعضهم بعضًا، إذا كان ذلك عن أدب ووفاء ومحبّة. كما ورد عن وفد عبد القيس أنهم لما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلوا يده ورجله، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا إقرار منه، وهو من أوجه السنة.
أقوال العلماء الراسخين في توقير العلماء
هذا الفعل لم يأت من فراغ، بل أفتى بجوازه جمع من كبار العلماء. قال الإمام النووي في "المجموع": "تقبيل اليد لزهده أو صلاحه أو علمه لا يُكره، بل يُستحب". وقال ابن مفلح الحنبلي في "الآداب الشرعية": "لا بأس بتقبيل يد العالم والصالح إن كان يُراد به تعظيم الدين، وكان على وجه التوقير، لا على وجه الرياء أو الإهانة".
وقال الإمام أحمد بن حنبل: "إن كان على وجه التوقير فلا بأس به".
بل ذهب بعض العلماء إلى أبعد من ذلك، حين أجازوا تقبيل يد الوالد أو الكبير في السن أو المحسن، بشرط ألا يكون فيه خضوع مذلّ أو غلو في الشخص.
وقد أفتى الشيخ ابن باز رحمه الله بجواز ذلك، وقال إن تقبيل يد العالم والوالد من باب البر والتوقير، وهو مما لا حرج فيه.
ووافقه الشيخ ابن عثيمين في قوله: "إذا كان المقصود من تقبيل اليد إكرامًا للعلم والدين، فهو جائز، ما لم يُخشَ منه فتنة أو مفسدة".

إن تقبيل اليد ــ في ميزان الشريعة ــ لا يُحمل على إطلاقه، بل يُقيّد بعدة ضوابط تضمن عدم الانزلاق نحو الغلو، ومنها:
- أن يكون بدافع المحبة والتوقير للعلم أو الفضل أو السن.
- ألا يكون مصحوبًا بالخضوع المفرط أو الذل المهين.
- ألا يكون متكررًا على نحو يخرج عن الأدب إلى التملّق.
- أن يخلو من الغرض الدنيوي أو التقرّب إلى أصحاب الجاه أو السلطان.
وبهذه الضوابط، يتضح أن تقبيل يد العالم هو تعبير عن أدب رفيع، واحترام لرمزية العلم الشرعي، وليس خروجًا عن السنة أو بدعة ضلالة، كما يروّج بعض المتعجلين في الحكم.
أما رفض هذا الفعل بدعوى الدفاع عن الكرامة الإنسانية فهو أمر يُخالف ما استقر عليه فقه الأدب في الإسلام، إذ أن الكرامة لا تعني المساواة المطلقة التي تُنكر مراتب الفضل والسابقة في العلم والدين، بل إن تكريم أهل الفضل هو من باب الوفاء والاعتراف بقدرهم، لا من باب امتهان الذات أو التذلل لغير الله.
وإذا كان العلماء هم ورثة الأنبياء، كما في الحديث الشريف، فإن توقيرهم واجبٌ أدبي وشرعي، لا سيما في مجتمعٍ يُعاني من جفاء شديد تجاه الرموز الدينية، ويُسارع في التجريح والتشويه بدعوى الحرية والانفتاح.
وتأسيساً على ما سبق من أقوال االقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأقوال السلف الصالح، نرى أن تقبيل يد العالم الصادق التقي، الذي يحمل ميراث النبوة، هو سلوك نبيل يستند إلى أصول شرعية صحيحة، ويعبر عن توقير العلم وأهله، ما دام منضبطًا بالنية الخالصة، وخاليًا من الغلو أو الرياء.
أما الإنكار المطلق له، دون نظر في السياق أو القصد، فهو خرقٌ لمنهج أهل الفقه والاعتدال، بل هو أقرب إلى التنطع الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة صريح لنص الاية الكريمة، حيث قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.
د. مظهر شاهين
إمام وخطيب مسجد عمر مكرم