ولد أسيرًا ومات شهيدًا… يوسف الزق: أيقونة البراءة المقهورة في غزة

في وطنٍ يكتب أبناءه تاريخهم بالدم والدمع، كان لا بد أن يُولد طفلٌ كـ"يوسف الزق" ليلخص مأساة فلسطين في جسد صغير، ويجسد في رحلته القصيرة ملحمة شعبٍ لا يُكسر، مهما تتابعت الضربات وتوالت المجازر.
ولد يوسف في قيدٍ، ورحل في قصف، وُلد عام 2008 داخل زنازين الاحتلال الإسرائيلي، طفلًا لا يعرف من الدنيا سوى صوت القضبان، وعيون أمه التي كانت تضيء عتمة السجن ببصيص من أمل، رغم القيد، رغم الجلاد.
والدته، المناضلة والأسيرة المحررة فاطمة الزق، أنجبته خلف الأسوار، ليصبح بذلك أصغر أسير فلسطيني في العالم، وكانت ضمة يديه أول انتصار في قلب السجن، وكانت حياته إعلان تمرد على القهر، وكان بكاؤه الأول نشيد حرية يتردد في أرجاء الزنزانة.

خرج يوسف إلى الحياة، لكنه لم يخرج من قبضة الجريمة، كبر بين أنقاض غزة، وتعلم أن النوم لا يأتي دائمًا، لأن الطائرات لا تنام، كبر سريعًا، لكنه لم يكبر بما يكفي ليحمل البندقية، فحمل بدلاً منها إرثًا ثقيلًا من الألم، وذاكرة بدأت من السجن وانتهت تحت الأنقاض.
في صباح 12 يوليو 2025، مزقت طائرات الاحتلال أحلام يوسف كما مزقت جدران شقته، في شارع الثورة بمدينة غزة، لتعلن استشهاد الطفل الذي ولد أسيرًا وارتقى شهيدًا، فرحل وهو لا يحمل سلاحًا، بل يحمل الحقيقة، والحقيقة وحدها كانت كافية لاغتياله.
لكن هل يموت الشهيد؟ هل يرحل حقًا؟
في وجدان الأمة، يبقى الشهيد حيًا، وفي شرف التضحية، يُخلّد اسمه في علياء السماء، ويُروى بدمه تراب الأرض.
يوسف الزق لم يُقتل، بل ارتقى، صعد إلى مقام الشهداء الذي لا يبلغه إلا من باع روحه فداءً لوطنه، كل قطرة دم نزفت من جسده الصغير هي وسام شرف على صدر هذا الشعب العظيم، الذي يزرع أشجار الزيتون رغم الحصار، ويبني بالأمل ما تهدمه الصواريخ.
إن فضل الشهيد في الإسلام عظيم، لا يُقارن بفضل، فالشهيد يُغفر له عند أول دفقة من دمه، ويؤمَن من فتنة القبر، ويُزف إلى الجنة، ويلبس تاج الوقار.
وإذا كان للملائكة أن تستقبل أرواحًا، فإنها وقفت اليوم صفًا لتحمل روح يوسف، لا لأنه مقاتل، بل لأنه مظلوم، بريء، ومقتول بغير ذنب.

يوسف الزق ليس مجرد شهيد، بل رمز، رمز للبراءة المنتهكة، للطفولة المسلوبة، ولأمة لا تزال تنجب الشهداء جيلاً بعد جيل، كلما استشهد طفل في غزة، خرجت الحقيقة من بين الركام، تصرخ في وجه الإنسانية: هنا يُقتل الأطفال لأنهم فلسطينيون، هنا يكتب الأطفال وصاياهم قبل أن يتعلموا كتابة أسمائهم.
لكن ما لا يدركه الاحتلال، أن الشعب الفلسطيني لا ينكسر، ففي كل شهيد يولد ألف مقاوم، وفي كل طفل يُقتل تنبت حكاية، وفي كل أم ثكلى، تلد الثورة نفسها من جديد.
غزة لا تذرف الدموع فقط، بل تقاوم، تُشيّع أبناءها على الأكتاف، وتُواصل الحياة بإيمانٍ بأن هذا الدم لن يُهدر، وأن يوسف ورفاقه لن يُنسَوا، فلسطين لا تنسى شهداءها، ولا تتاجر بدمهم، بل تُسطّر بهم تاريخًا لا يُمحى.
في قلب الأم، صورة يوسف، وفي عقل الأمة، قضيته، وفي وجدان الأحرار، صوته المقهور، يوسف الزق سيبقى خالدًا، لا في قبر، بل في وعي جيلٍ سيتربى على أن الحرية ثمنها الدم، وأن الشهادة أعلى وسام يناله الإنسان على أرضٍ ما زالت تنزف، لكنها لا تموت.