الايام المصرية
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى
رئيس مجلس الإدارة
د. أحمد رضوان
رئيس التحرير
رضـــا حبيشى

حين اشتعلت النيران في قلب سنترال رمسيس ، لم يكن الدخان المتصاعد من المبنى العتيق مجرد لهب يلتهم الجدران، بل كان لهبًا يحرق صورة زائفة عن استقرار البنية الرقمية في مصر. 

فجأة، تعطلت خطوط الإنترنت، انقطع الهاتف الأرضي، صمت البريد الصوتي، وتوقفت أنظمة الدفع الإلكتروني عن العمل، فارتبك المواطن، وارتبكت معه دوائر المال والخدمات. 

لم يكن الأمر حادثًا عرضيًا، بل رسالة حارقة تفضح هشاشة منظومة الاتصالات التي بُني عليها حلم التحول الرقمي.

سنترال رمسيس، الذي ظلّ لعقود مجرد اسم إداري على خرائط الاتصالات، اتضح أنه حجر زاوية في عمارة رقمية هشة، لم تُحسن الحكومة توزيع أحمالها ولا تأمينها.

ومن تحت رماد الحريق، برز سؤال مرير: ماذا لو احترق المستقبل؟ هل اقتصادنا الرقمي قائم على أسس صلبة أم على أعمدة من خشب هشّ قابلة للاشتعال في لحظة؟

ليست القضية في ألسنة اللهب، بل في ما كشفته من غياب خطط الطوارئ، وافتقار للبنية اللامركزية، واعتماد مفرط على نقاط ارتكاز قديمة. 

من هذه النقطة، تبدأ القصة الحقيقية: قصة قطاع أصبح العمود الفقري للاقتصاد المصري، لكنه ما زال يترنح بين طموحات رقمية كبرى وبنية تشغيلية لم تواكب هذا التحول.

حريق سنترال رمسيس

الاتصالات.. شريان الاقتصاد الرقمي في مصر

لم يكن من قبيل المصادفة أن يتعطل جزء من الاقتصاد خلال ساعات قليلة من حريق سنترال رمسيس، فمصر التي تسير بخطى متسارعة نحو التحول الرقمي، تعتمد على قطاع الاتصالات كأحد الأعمدة الأساسية للنمو والتنمية. 

هذا القطاع الذي سجّل نموًا بلغ نحو 15.2% خلال العام المالي 2022/2023، ليس مجرد مرفق، بل قطاع استراتيجي يُسهم اليوم بـ 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي.

بلغت الاستثمارات المنفذة في هذا القطاع الحيوي أكثر من 4.2 مليار دولار في عام واحد فقط، مما يعكس ثقة الدولة والمستثمرين في قدرته على قيادة النمو الرقمي. 

أما عدد مستخدمي الإنترنت في مصر فقد تجاوز 96.3 مليون مستخدم حتى مطلع 2025، أي ما يمثل نحو 72.2% من السكان، بحسب بيانات DataReportal ووزارة الاتصالات.

وهذا التوسع لم يكن عشوائيًا، بل مدعوماً ببنية تحتية رقمية ضخمة، حيث تمتلك مصر موقعًا استراتيجيًا تمر من خلاله أكثر من 16 كابلًا بحريًا، تربط بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، أبرزها كابل PEACE وكابل Africa‑1، بسعات تصل إلى 96 تيرابت/ثانية، مما يعزز مكانة مصر كمركز عبور للبيانات عالميًا.

المصرية للاتصالات.. ركيزة اقتصادية تتجاوز الخدمات التقليدية

حين انقطعت الخدمة، تذكّر الجميع اسم "المصرية للاتصالات"، الشركة الوطنية التي تحمل على عاتقها مسؤولية إدارة الجزء الأكبر من الشبكة، ففي عام 2024 فقط، حققت الشركة إيرادات بلغت 82 مليار جنيه، بنمو سنوي قدره +45%، مع ربح صافي معدَّل تجاوز 14.3 مليار جنيه.

لكن هذه الأرقام لا تُظهر إلا جزءًا من القصة، فالمصرية للاتصالات لم تعد مجرد شركة لتوصيل المكالمات، بل أصبحت مركزًا رقميًا شاملًا يقدم خدمات الحوسبة السحابية، مراكز البيانات، الكابلات الدولية، وخدمات الجيل الخامس.

وقد حصلت بالفعل على أول ترخيص لتقنية 5G في مصر باستثمار قدره 150 مليون دولار، وبدأت التجارب في مناطق استراتيجية.

وتُعد الشركة اليوم المورد الأكبر لحركة البيانات، حيث نمت عائدات خدمات نقل السعة بنسبة 90% خلال عام واحد فقط، ما يدل على الزيادة المطردة في الطلب على نقل البيانات، سواء من الشركات أو التطبيقات الذكية أو الحكومة الرقمية.

عطل يضرب شركات المحمول بعد حريق سنترال رمسيس - تليجراف مصر
حريق سنترال رمسيس

التحول الرقمي والاعتماد الكامل على الاتصالات

ما حدث في سنترال رمسيس لم يكن مجرد عطل تقني، بل اختبار حقيقي لما يعنيه الاعتماد الكلي على الخدمات الرقمية، فقد تعطلت منصات حكومية، وتوقفت عمليات السحب والدفع، حتى حجز تذاكر القطار والدخول إلى الجامعات والمستشفيات تأثر سلبًا.

وهذا يضعنا أمام مشهد مركّب: من جهة، مصر تنفذ أكبر خطة للتحول الرقمي في تاريخها، تربط من خلالها 33 ألف جهة حكومية بشبكات موحدة، وتفعّل خدمات إلكترونية في المرور، التموين، الشهر العقاري، وغيرها، ومن جهة أخرى، فإن أي خلل في نقطة مركزية مثل سنترال رمسيس كفيل بشلّ هذا النظام المعقّد.

ورغم التحديات، فإن الدولة تستثمر بقوة في حماية هذه البنية، من خلال إنشاء مراكز بيانات عملاقة، ومدّ أكثر من 11,000 كم من كابلات الألياف الضوئية، وتوسيع التغطية بتقنية الجيل الرابع لتصل إلى 95% من الجمهورية، مع بداية انتشار شبكات الجيل الخامس في العاصمة الإدارية والعلمين.

حريق سنترال رمسيس لم يُطفئ فقط الأسلاك، بل كشف نارًا تحت الرماد، تؤكد أن البنية الرقمية لم تعد ترفًا ولا خيارًا، بل ضرورة اقتصادية وأمن قومي. 

لقد أظهرت الحادثة أهمية أن نعيد النظر في صيانة البنية التحتية، وتحديث السنترالات، وتوزيع مراكز التحكم، والانتقال من المركزية إلى اللامركزية.

مصر أمام مفترق طرق: إما أن تؤمن اقتصادها الرقمي بتكنولوجيا أكثر أمانًا، واستثمارات أكثر ذكاءً، وكوادر بشرية أكثر تدريبًا؛ أو تبقى مهددة بعطل أو حريق قد يوقفها عن العمل لساعات أو أيام.

لكن ما يمنح الأمل هو أن الخطط موجودة، والأرقام تدعو إلى التفاؤل، والإرادة السياسية واضحة، بقي فقط أن نحول هذه الأرقام إلى واقع مستدام، يضع قطاع الاتصالات في موقعه الصحيح، لا كمجرد وسيط مكالمات، بل كركيزة اقتصادية سيادية لبناء مصر الرقمية.

د. حماد الرمحي 

خبير التخطيط الاستراتيجي والتحول الرقمي

تم نسخ الرابط