في مشهد مأساوي يكشف عمق الإهمال المؤسسي وغياب الاستعدادات الوقائية، اندلع اليوم حريق هائل داخل سنترال رمسيس، أحد أهم المرافق الحيوية في قلب العاصمة المصرية القاهرة.
ما أدى إلى توقف شبه كامل لخدمات الاتصالات الثابتة، الإنترنت المنزلي، والمعاملات المالية الرقمية، وسط صدمة شعبية وتساؤلات مشروعة حول الجاهزية الفنية لإدارة الأزمات في قطاعات الاتصالات والتكنولوجيا.
سنترال رمسيس، الذي يُعد المركز العصبي لشبكات الاتصالات الأرضية والإنترنت في القاهرة الكبرى، تعرض لأضرار جسيمة بعد اشتعال النيران في الطوابق العليا، وهو ما تسبب في انهيار منظومة الربط بين مراكز التحكم الرئيسية وشبكات المستخدمين.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن الحريق بدأ نتيجة ماس كهربائي في أحد أجهزة التكييف القديمة، دون أن تتدخل أنظمة الإنذار المبكر أو شبكات الإطفاء التلقائي، ما فاقم من حجم الكارثة.
خسائر اقتصادية جسيمة وشلل في الخدمات الحيوية
وفقاً لبيانات الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، فإن عدد مشتركي الهاتف الثابت في مصر يتجاوز 13.2 مليون مشترك، بينما يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت الثابت نحو 11.6 مليون، والإنترنت عبر الهاتف المحمول يصل إلى أكثر من 84 مليون مستخدم.
هذه الأرقام تُترجم إلى ملايين من الأفراد والشركات والمؤسسات التعليمية والخدمية التي تعطلت أعمالها اليوم بسبب الحريق.
امتدت آثار الحادث إلى تعطيل تطبيقات الدفع الإلكتروني والخدمات المصرفية، وعلى رأسها تطبيق البنك المركزي "إنستاباي"، وشبكات "فوري" و"أمان" و"مصارى" و"كاش"، ما أدى إلى توقف معاملات مالية تُقدر بعشرات الملايين من الجنيهات خلال ساعات قليلة فقط، وسط استياء واسع في الأوساط التجارية والشعبية.
كما أبلغ العديد من المواطنين عن تعطل صرف المعاشات من مكاتب البريد، وانقطاع خدمات الشراء الإلكتروني، وسقوط خدمات التوثيق العقاري والمصالح الحكومية المرتبطة بشبكة البيانات المركزية.
غياب إدارة الأزمات.. المشكلة أعمق من مجرد حريق
الخطورة لا تكمن فقط في نشوب حريق، بل في غياب بنية تحتية حديثة قادرة على امتصاص الصدمات، وغياب خطة طوارئ واضحة لإدارة الكوارث في منشآت مركزية بحجم سنترال رمسيس.
إن الحادث يفضح عجزاً صارخاً في منظومة الصيانة الدورية، وانعدام أنظمة الكشف المبكر عن الحرائق، وعدم وجود مواقع تشغيل بديلة يمكنها تولي مهام البث والسيطرة حال وقوع كوارث.
كان يمكن تقليل حجم الكارثة أو حتى منعها لو توفرت إدارة محترفة للمخاطر، وطبّقت الإجراءات الوقائية المتعارف عليها عالمياً في مراكز الاتصالات والبنى الرقمية، ومنها تركيب أنظمة إطفاء تلقائي، استخدام أنظمة تكييف مؤمنة كهربائياً، وإجراء اختبارات دورية للبنية الكهربائية.
إن تكرار حوادث مشابهة، مثل حريق شركة WEفي سنترال آخر عام 2021، يثير القلق بشأن غياب رقابة حقيقية على البنية التحتية لقطاع الاتصالات في مصر، الذي يُفترض أن يكون قاطرة التحول الرقمي والدفع الإلكتروني.
وإذا كانت الدولة المصرية قد قطعت شوطاً كبيراً في مشاريع البنية الرقمية، فإن غياب الحوكمة والرقابة والصيانة يمثل تهديداً مباشراً لهذه المكاسب.
حلول عاجلة واستراتيجية لمواجهة الكوارث الرقمية
إنشاء مراكز بديلة للطوارئ (Disaster Recovery Sites) موزعة جغرافياً لخدمة القاهرة الكبرى والمحافظات.
إطلاق خطة وطنية لإعادة تأهيل سنترالات الاتصالات القديمة وتحديث البنية التحتية بشبكات ألياف ضوئية عالية التأمين.
ربط خدمات الدولة الرقمية بشبكات احتياطية تفعل تلقائياً عند توقف الشبكات الأساسية.
إلزام شركات الاتصالات بوضع خطط لإدارة المخاطر والأزمات ضمن تراخيص التشغيل.
نشر تقارير فصلية عن حالة البنية الرقمية في مصر ومدى التزام المشغلين بمعايير الجودة والصيانة.
إن الحريق الذي أصاب سنترال رمسيس اليوم ليس مجرد حادث عابر، بل جرس إنذار خطير يجب ألا يُهمل، لأن خطة بناء الاقتصاد الرقمي في مصر لن تتحقق فقط عبر منصات الدفع أو بوابات الخدمات الحكومية، بل يبدأ من تأمين العمود الفقري للاتصالات، وإعادة هيكلة البنية التحتية التي تنقل هذه الخدمات إلى المواطنين.