على الطرق السريعة والداخلية في مصر، لا يمر يوم دون حادثة مؤلمة تعصف بأرواح الأبرياء.
وقد يكون السبب، في كثير من الأحيان، ليس عطلًا ميكانيكيًا أو خطأ مروريًا، بل سائق تحت تأثير المخدر، يقود مركبته وقد غابت عنه القدرة على التركيز أو اتخاذ القرار.
إنها كارثة صامتة تتكرر، تتفاقم، وتحتاج إلى مواجهة أكثر جذرية.

ظاهرة مرعبة وأرقام صادمة
لا تقتصر هذه الظاهرة على مشاهد فردية، بل هي أزمة موثقة بالأرقام، ووفقًا لتقارير صندوق مكافحة وعلاج الإدمان، بلغت نسبة تعاطي المخدرات بين سائقي الحافلات المدرسية 8.3%، بينما تراوحت بين 11% و15% بين سائقي النقل العام والميكروباص، رغم تزايد الحملات الرقابية.
وتشير إحصائيات الإدارة العامة للمرور إلى أن ما يزيد عن 7500 سائق تم ضبطهم خلال عام 2023 وهم يقودون تحت تأثير المواد المخدرة، في حملات موسعة شملت الطرق السريعة والمداخل الحيوية في المحافظات.
وتنعكس هذه النسب المخيفة على الواقع الدموي لحوادث الطرق، فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجّلت مصر أكثر من 52 ألف حادث مروري في عام 2021 فقط، خلفت ما يقرب من 7000 وفاة وأكثر من 60 ألف مصاب. جزء معتبر من هذه الحوادث يرتبط بشكل مباشر بتعاطي المواد المخدرة أثناء القيادة، ما يجعل الظاهرة ليست فقط مسألة فردية، بل خطرًا عامًا يهدد حياة الملايين.
وراء هذا المشهد المأساوي تكمن أسباب اجتماعية ونفسية واقتصادية مركبة، فكثير من السائقين، خصوصًا في النقل الثقيل والمواصلات العامة، يعملون لساعات طويلة في ظروف مرهقة، وغالبًا ما يلجأ بعضهم إلى مواد مخدرة مثل الترامادول، أو الحشيش، أو غيرها من المنبهات الرخيصة، بدعوى "التحمل والتركيز".
وهو اعتقاد خاطئ لا يلبث أن يتحول إلى إدمان تدريجي، يفقد معه السائق سيطرته على وعيه، بل وعلى مصيره ومستقبل أسرته.
الأزمة أيضًا تكشف غياب ثقافة التوعية داخل بيئة النقل، وغياب الفحص الدوري الإجباري في كثير من شركات النقل الخاصة، وغياب المتابعة الصحية والنفسية للسائقين، ما يجعل كثيرًا منهم عرضة للإدمان دون تدخل مبكر.

الحل لا يكون بالعقاب وحده: العلاج ضرورة وطنية
تدرك الدولة حجم الكارثة، ولهذا جاءت جهود صندوق مكافحة الإدمان بالتعاون مع الجهات المعنية لتقديم العلاج المجاني والسرّي للمدمنين.
ووفقًا لإحصاءات رسمية، تلقى الخط الساخن (16023) أكثر من 140 ألف اتصال خلال عام واحد، أغلبها من أسر تطلب مساعدة في علاج أحد أفرادها العاملين في مهن القيادة والنقل.
لكن العلاج لا يكفي وحده، فالمطلوب هو منظومة متكاملة تبدأ من التشريع وتنتهي بالوعي المجتمعي، تشمل:
- إلزامية الفحص الدوري عند تجديد الرخص المهنية.
- إنشاء قواعد بيانات صحية ومهنية للسائقين.
- ربط تراخيص شركات النقل بمدى التزامها بتحليل السائقين ومتابعة أوضاعهم النفسية.
- دمج برامج التوعية بالإدمان في النقابات والمعاهد الفنية الخاصة بالسائقين.
كما أن الإعلام له دور مهم في تسليط الضوء على هذه القضية من زاوية إنسانية وليست فقط أمنية. فالسائق المدمن ليس مجرمًا دائمًا، بل ضحية في كثير من الحالات لنظام إهمال، أو ضغط، أو تهميش.
وختامًا.. إن تعاطي السائقين للمخدرات في مصر لم يعد مجرد سلوك شاذ، بل تحدٍ مجتمعي يستوجب المواجهة الفورية والحاسمة، فالسائق الذي يجلس على كرسي القيادة وهو تحت تأثير المخدر، لا يقود مركبة فحسب، بل يقود قنبلة موقوتة تسير وسط شوارع مكتظة بالحياة.
إن الحفاظ على الأرواح لا يكون فقط بتشييد الكباري وتوسيع الطرق، بل يبدأ من الإنسان الذي يقود، ومن الوعي الذي يُزرع، ومن القانون الذي يُطبق بعدل.
سامي حسني