في كل مرة تُذكر فيها الحرية، تتوهج المعاني في وجدان الإنسان، ويقف العقل أمامها بخشوع، ليس لأنها شعارٌ يُرفع في الخطب والمنابر، أو صدىً يُتردَّد في الساحات، بل لأنها جوهر إنساني أصيل، وفطرة فُطر عليها الإنسان، ونبض لا يهدأ في صدر كل من يسعى إلى الكرامة والعدل والحياة الكريمة.
ولكن هذا المفهوم الجليل لا يُدرك على حقيقته إلا حين يُقرن بالمسؤولية، وحين يدرك صاحبه أن الحرية لا تكتمل إلا بانضباطها، ولا تدوم إلا إذا كانت مصونة بالوعي، لأن الحرية إذا فُهمت على غير وجهها، أو استُخدمت بغير ضوابطها، تحوّلت في لحظة إلى فوضى، وفي لحظة أخرى إلى أداة للهدم بدلًا من البناء.
إن الحرية لا تعني أن يُطلق المرء لسانه في أعراض الناس أو يشهّر بمن يخالفه أو يُثير الفتن، ثم يلوذ بشعار “حرية الرأي” ليُحصّن نفسه من المساءلة. ليست الحرية أن تكون صرخة في ميدان ولا قصيدة في ديوان، وإنما هي سلوك حضاري راقٍ، ينطلق من قلبٍ متزن، وعقلٍ يدرك أن التعبير عن الرأي لا يكون على أنقاض القيم، ولا عبر إسقاط الآخرين أو النيل منهم، بل بالحجة والبرهان، وبما يحفظ المجتمع من التفسخ والانقسام.
الإسلام نفسه لم يمنع حرية الإرادة، بل جعلها مناطًا للتكليف، حين قال تعالى: “لا إكراه في الدين”، وجعل كرامة الإنسان ركيزة أصيلة حين قال: “ولقد كرّمنا بني آدم”. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُكره أحدًا على اتباعه، ولم يمنع المنافقين من التعبير عن آرائهم، ما داموا لا يجاهرون بعدوان ولا يُثيرون فتنة.
في ضوء ذلك، فإن من يدّعي أن الدين يُقيّد الحرية لم يقرأه جيدًا، ولم يفهم أن الإسلام حفظ الكلمة بشرطها، وكفل الرأي بضابطه، وأرسى مبدأ الحوار لا الاستعلاء، والحجة لا الشتيمة.
أما الحرية التي لا تراعي كرامة الآخرين، وتُغلف السب والشتم بغلاف النقد، فليست حرية، بل تعدٍّ مرفوض شرعًا وقانونًا وأخلاقًا. وقد أكدت المواثيق الدولية ذات هذا المعنى، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصّ في مادته الأولى على أن: “الناس يولدون أحرارًا”، لكنه عاد في مادته (29) ليقرر أن ممارسة هذه الحقوق لا بد أن تراعي “حقوق الآخرين، والنظام العام، والآداب العامة”.
وليس التاريخ عنا ببعيد، فقد وقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا يخطب في الناس ويقول: “أيها الناس، من رأى فيّ اعوجاجًا فليقوّمه”، فرد عليه رجل من بين الصفوف قائلًا: “لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناه بسيوفنا”. لم يغضب عمر، ولم يُصادر الرأي، بل قال: “الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوّم عمر بسيفه”.
لقد كان حرًّا وعظيمًا، لكنه في ذات الوقت مسؤول. ولما خرج المصريون في ثورة 1919 يهتفون للحرية، لم يكونوا دعاة فوضى، بل كانوا يصوغون عقدًا وطنيًّا جديدًا عنوانه: “الدين لله والوطن للجميع”. حتى في ميدان التحرير سنة 2011، رأينا من الشباب من كان يقف لحراسة المتاجر والمباني، لا ليخربها، ومن ينظّم حركة الناس، لا ليقودهم إلى الفوضى.
لكن للأسف، كما رأينا وجوهًا مشرقة تعي معنى الحرية، رأينا أيضًا من حوّلوا الحرية إلى وسيلة لتخريب العقول، وهدم المؤسسات، والنيل من الثوابت، والطعن في الجيش والأزهر والرموز الوطنية تحت مسمى “حرية التعبير”. بعضهم لا يريد حرية، بل يريد فوضى مُقنّعة، يتحدث باسم القيم وهو يهدمها، ويطالب باحترام الرأي وهو أول من يُقصي غيره، ويهاجم الدولة وهو أول من يتكسب من مؤسساتها. أولئك لا يعرفون معنى أن تكون الحرية مسؤولية، ولا يدركون أن المجتمعات لا تنهض بحرية سائبة، كما لا تُبنى بقيود خانقة، بل بتوازن دقيق بين الحق والواجب، بين الحرية والضوابط.
ليست الحرية في أن تقول ما تشاء بلا ضوابط، ولا أن تجرح وتطعن وتُهين وتُثير، ثم تقول: “هذه وجهة نظري”. فالحرية التي تُمارَس على أنقاض الأخلاق ليست حرية، بل عدوان. ومن يستخدم المنصات الإعلامية أو الإلكترونية ليُسقط الخصوم، أو يُشهّر بالأبرياء، أو يُروّج للفُرقة والانقسام، فهو ليس معبّرًا عن رأي، بل ناشر لسموم. الحرية إن ضاعت منها المسؤولية، سقطت عدالتها، وسقط معها كل معنى نبيل.
وفي الختام، إننا نريد حرية توقظ العقول، لا تُشعل الفتن. حرية تنضج الحوار، لا تفتح أبواب الردح والتشويه. نريد حرية تُعبّر بصدق، وتبني بوطنية، وتنتقد بمسؤولية. نريد حرية تُضيف ولا تهدم، تُصلح ولا تُفسد، تبني الإنسان ولا تُمزقه. فليعلم الجميع أن الحرية التي لا تُبنى على المسؤولية لا تستحق أن تُسمى حرية.