أطلقت إسرائيل، مؤخرا، سيلاً من التصريحات التي تحذر من قوة الجيش المصري، باعتبارها خطراً مؤثراً على أمن إسرائيل، ولعل أهمها كان تصريحاً لرئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هليفي، قبل أن يغادر منصبه، في لقاء في كلية الأركان حرب الإسرائيلة، بمدينة "وتكوف"، عندما أشار لامتلاك مصر لجيش كبير، مزود بوسائل قتالية متطورة، منها طائرات وغواصات وصواريخ متقدمة، فضلاً عن الأعداد الكبيرة من الدبابات وسلاح المشاة معرباً عن مخاوفه، بكل صراحة، بقوله "نحن قلقون جداً بشأن هذا الأمر".
جاء هذا التصريح قبل أن يسلم هليفي منصبه، رسمياً، لخليفته، أيان زمير، في الأسبوع الأول من مارس. والحقيقة أنها لم تكن المرة الأولى التي يحذر فيها مسؤول إسرائيلي من قدرات مصر العسكرية، حيث سبقه إليها سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، دافيد أنون، عندما أشار إلى المخاوف الإسرائيلية الكبيرة بشأن العسكرية المصرية، بقوله "أن المصريون ينفقون مئات الملايين من الدولارات على المعدات العسكرية الحديثة، رغم عدم وجود أية تهديدات على حدودهم"، من وجهة نظره، متسائلاً في تصريحات للإذاعة العبرية "KolBarma" "لماذا يحتاجون لكل تلك الغواصات والدبابات والمعدات العسكرية؟"
كل تلك التصريحات تأتي في سياق قصة تسليح الجيش المصري التي مرت بثلاث مراحل؛ بدأت المرحلة الأولى منها بعد ثورة ٢٣ يوليو، والتي كان أحد مبادئها الستة إقامة جيش وطني قوي. وحين شرع الرئيس عبد الناصر في اتخاذ الخطوات التنفيذية في هذا الشأن، اصطدم بالبريطانيين، الذين فرضوا قيوداً على تسليح الجيش المصري، من ضمنها وضع حد أقصى لأعداد أفراده، وكذا تحديد عدد الدبابات والمدفعية وباقي الأسلحة بعدد معين. فقرر الرئيس عبد الناصر، حينها، التوجه إلى الاتحاد السوفيتي، وأبرم أول صفقة سلاح، تضمنت أسلحة تشيكية، ليبدأ بذلك عصراً جديداً من التسليح والفكر العسكري المعتمد على السوفيت.
في ذلك الوقت، تحولت، أيضاً، العقيدة العسكرية المصرية إلى العقيدة الشرقية، وأصبحت كلية الأركان المصرية تدرس العقيدة السوفيتية، بدلاً من العقيدة الغربية لحلف الناتو، وبدأت البعثات العسكرية المصرية للخارج في التوجه إلى روسيا، وكان من بين أبرز هذه البعثات تلك التي ضمت الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، التي حصل فيها على دراسة الأركان حرب من كلية فرونزا. وظلت مصر تنتهج العقيدة العسكرية الشرقية، وتعتمد على السلاح السوفيتي حتى حرب ۱۹۷۳.
وخلال تلك الفترة، شهدت الصناعات الحربية المصرية نهضة كبيرة في عهد الرئيس عبد الناصر، حيث أنشأ العديد من المصانع الحربية، ومنها مصانع الطائرات في حلوان، التي صنعت أول طائرة نفاثة بالتعاون مع الهند، وهي "القاهرة 500". إلا أن هزيمة 1967 أدت إلى توقف تطوير هذه المصانع، التي تحول معظمها لإنتاج السلع المعمرة كالثلاجات والبوتاجازات والسخانات وغيرها، بدلاً من التركيز على التصنيع العسكري.
وفي عهد الرئيس محمد أنور السادات، طلب من الروس أسلحة هجومية قبل حرب ۱۹۷۳، إلا أنهم رفضوا طلبه، فرد عليهم بطرد الخبراء العسكريون الروس من مصر، وهو ما يُعد واحداً من أهم قرارات السادات، لأنه قطع الطريق أمام أي مزاعم بأن الروس هم من خططوا لحرب أكتوبر، لأن العالم كله كان سيتخذ وجودهم بمصر، فى وقت الحرب، كذريعة لنسب انتصار مصر فى الحرب للخبرات، والأسلحة، الروسية، بل وقد تصل لحد الادعاء بمشاركتهم في القتال.
أما المرحلة الثانية من تسليح الجيش المصري فبدأت في عهد الرئيس السادات، بعد توقيع اتفاقية السلام في كامب ديفيد، وامتدت في عهد الرئيس مبارك، حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية منحة عسكرية سنوية لمصر بقيمة 1.3 مليار دولار، استغلتها مصر، خلال ٣٠ عاماً، لتحويل معظم تسليح الجيش المصري إلى الأسلحة الأمريكية، حتى أصبحت جميع دبابات الجيش المصري أمريكية الصنع.
إلا أن ارتفاع أسعار الأسلحة، دفع مصر نحو المرحلة الثالثة، فبعدما كان سعر الطائرة من طراز "إف ١٦" ٤٠ مليون دولار، تجاوز اليوم مبلغ ۹۰ مليون دولار، وهو ما جعل الرئيس السيسي، يتخذ قراراً حاسماً بتنويع مصادر التسليح، وهو الحلم الذي طالما سعت إليه مصر، للتخلص من الهيمنة الأمريكية، في حال دخول مصر في أي مواجهة قادمة. والحقيقة أن الرئيس السيسي تصدى للضغوط الأمريكية الشديدة، وأصر على تنفيذ قراره، فقام بشراء طائرات "الرافال" وحاملات المروحيات والفرقاطات من فرنسا، بالإضافة إلى فرقاطات أخرى من إيطاليا، وغواصات من ألمانيا، وطائرات مسيرة من الصين، ودبابات من كوريا الجنوبية.
كما نجح في تطوير المصانع الحربية، التي لم تحظ بالتطوير الكافي في العقود السابقة، فتم تحويل جميع المصانع الحربية، ومصانع الهيئة العربية للتصنيع، للعمل بأحدث الأساليب التكنولوجية، ويرجع الفضل في ذلك إلى اللواء العصار، رحمه الله، الذي قرر الرئيس السيسي منحه رتبة فريق، بعد وفاته، تقديراً لجهوده، وإسهاماته. ولأول مرة، أقامت مصر معرضاً للأسلحة الحربية، أصبح يتكرر سنوياً، لتدخل بذلك مرحلة جديدة من تنويع مصادر السلاح والتصنيع الحربي، بما يعزز كفاءتها، كقوة عسكرية، قادرة على تحقيق أمنها القومي.
ولم يقتصر التحديث على الأسلحة، ومصادرها، وإنما تزامن معه تحديث الفكر العسكري، حيث تم دمج العقيدة العسكرية الشرقية مع الفكر العسكري الغربي، وأرسلت البعثات العسكرية المصرية لكبرى الأكاديميات العسكرية العالمية، مثل كلية كمبرلي الملكية في إنجلترا، التي شرُفت بأن أكون أول ضابط مصري يُبتعث إليها، بعد نصر أكتوبر ١٩٧٣، وكذلك لكليات الأركان في أمريكا وفرنسا والهند وباكستان.
وبفضل هذه التطورات، أصبح الجيش المصري، اليوم، قوة عسكرية متقدمة، قادرة على مواجهة أي تهديد مستقبلي، وهو ما يقلق إسرائيل في الوقت الحالي.